يتناول الفصل الثاني حلول الولايات المتّحدة محلّ بريطانيا في عام 1947م كقوة إمبرياليّة، وتحرّكاتها لحشد الدعم الدوليّ لضمان تمرير قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتَّحدة، والذي صادق على إنشاء دولة يهوديّة على 56٪ من الأراضي العربيّة، منتهكًا بذلك حقّ الفلسطينييّن في "تقرير المصير" الذي يضمنه ميثاق الأمم المتَّحدة.
وتلا هذا عنف مدنيّ، وإقامة دولة إسرائيل، والحرب العربيّة الإسرائيليّة الأولى، والنكبة، حيث طرد حوالي 700 ألف فلسطينيّ أو فرّوا إلى الدول العربيّة المجاورة. وتمَّت مصادرة الأراضي التي كانت مملوكة للفلسطينيّين المُهجَّرين من قبل الحكومة الإسرائيليّة لاستخدامها فقط لصالح الشعب اليهوديّ، أو إضافتها إلى المستوطنات اليهوديّة الموجودة أو الخاضعة لسيطرة سلطة أراضي إسرائيل والصندوق القوميّ اليهوديّ.
وقد دعت الحركة الصهيونيّة للمرّة الأولى علنًا لتحويل كامل فلسطين إلى دولة يهوديّة وكان المطلوب هو أن تصبح فلسطين كومونولوثًا يهوديًّا.
ويرى الخالديّ أنَّ ثورة 1936م – 1939م قد أضعفت المجتمع الفلسطينيّ؛ فقد استنزفت قواه الاقتصاديّة، على الرغم من محاولة التعافي، وفكّكت بناه الاجتماعيّة، ودخل الفلسطينيّون في صراعات داخليّة بين القوى المحليّة، وفُقد الآلاف من شبّانه وزعمائه بين ضحايا أو معتقلين أو مطاردين في المنافي، وبالتالي أصبح المجتمع الفلسطينيّ منهكًا تمامًا.
وأصبح الصهاينة بالتدريج أكثر عداوة لأصدقائهم البريطانيّين بعد إصدار الصحيفة البيضاء سنة 1939م، والتي حدَّدت فيها بريطانيا عدد المهاجرين اليهود كمحاولة لإخماد الثورة العربيّة في فلسطين.
ولقد شكَّل إنشاء اللجنة الأنجلو- أميركيّة في عام 1946م المفترق الأساس لظهور قوًى جديدة على الساحة الفلسطينية؛ إذ تجاهلت اللجنة ما قدَّمه العرب بشأن قضيّتهم، وتفضيلات الحكومة البريطانيّة في تحديد الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين، وعكست رغبات الحركة الصهيونيّة، حيث أوصت بزيادة عدد المهاجرين إلى مئة ألف يهوديّ، وكانت هذه نقطة التحوّل المركزيّة في تراجع الدور البريطانيّ لمصلحة صعود الولايات المتَّحدة في المسألة الفلسطينيّة.
وبدأ التوتّر يسود علاقات الحركة الصهيونيّة وعصاباتها مع الحكومة البريطانيّة، فشنَّت العصابات عمليّات إرهابيّة متوالية ضدّ جيش الحكومة البريطانيّة وتمثَّلت العدوانيّة الصهيونيّة في اغتيالات مسئولين بريطانيّين مثل اللورد مويان، وعمليّة تفجير فندق الملك داود.
وقد تمتَّع الصهاينة بدعم دوليّ قويّ وواسع بالمقارنة مع ضعف وتمزق الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، حيث استقلَّت الدول العربيّة حديثًا، وأصبحت هشّة ومصابة بالتمزُّق والخلافات ومفعمة بالأحقاد.
وبدأت العصابات الصهيونيّة المسلَّحة عمليّة تهجير السكان الأصليّين في نوفمبر1947م، وعلى سبيل المثال نفَّذ الصهاينة الخطَّة (د) في ربيع سنة 1948م، واشتملت على احتلال وتفريغ سكان أكبر مدينتين عربيّتين في يافا وحيفا.
وبعد استهداف الأحياء الضعيفة المدنيّة، دمَّر الاحتلال منازل الفلسطينيّين، وهكذا أصبح غالبيّة السكّان العرب الفلسطينيّين لاجئين وفقدوا بيوتهم ومعايشهم.
وكان جدّ وجدّة رشيد الخالديّ - المؤلّف - ضمن المهاجرين سنة 1948م وتركوا منزلهما في تلّ الريش.
واستمرّت عمليّة التطهير العرقيّ حتى إعلان الانسحاب البريطانيّ وتأسيس إسرائيل في 15 مايو سنة 1948م. وبهذا نشأت على أرض فلسطين دولة جديدة ذات أغلبيّة يهوديّة، في مقابل أغلبيّة عربيّة بلا دولة.
وقد تحوَّلت فلسطين إلى دولة جديدة ذات غالبيّة يهوديّة كبيرة نتيجة التطهير العرقيّ الممنهج للمناطق العربيّة التي تمَّ احتلالها خلال الحرب، وسرقة الأراضي والممتلكات التي خلَّفها اللاجئون وراءهم.
وقد تمَّ طرد مئات الآلاف من الفلسطينيّين من بيوتهم، كما تم تهجيرهم قسرًا إلي دول الجوار. وقد أدّى ذلك إلى عدم استقرار سوريا ولبنان والأردن والتي كانت دولا فقيرة ضعيفة حديثة الاستقلال؛ ممّا أدَّى إلى عدم استقرار المنطقة العربيّة كلّها.
وفشلت الدول العربيّة فشلًا ذريعًا في مواجهة أوَّل اختبار دوليّ لها، وكانت النتائج كارثيّة حيث بدأت سلسلة من الهزائم العسكريّة الحاسمة أمام الآلة العسكريّة الإسرائيليّة.
وكان من نتائج تلك الحرب اغتيال الملك عبد الله ملك الأردن في يوليو سنة 1951م في ساحة الحرم الشريف في القدس وهو يغادر المسجد الأقصى بعد صلاة الجمعة. ولم تستقرّ الأوضاع السياسيّة بعدها في الكثير من دول الطوق.
وأصبح أغلب الفلسطينيّين لاجئين يعيشون في الشتات خارج حدود دولتهم. وحافظ الفلسطينيّون على تماسكهم على الرغم من الصدمة الجماعيّة التي أصابتهم جراء النكبة وسرقة أرضهم، فقد مثّل حفظ أحداث النكبة. وتناقلها من جيل إلى جيل أحد أشكال مقاومة الفلسطينيّين للاستعمار الاستيطانيّ، بل إنّه صار هو هويتهم التي يعرّفون أنفسهم بها في الشتات.
وفي نوفمبر 1956م اقتحمت القوّات الإسرائيليّة مدن وبلدات غزّة ومخيّمات اللاجئين في خان يونس ورفح حيث قتل أكثر من 450 مدنيًّا.
وقد قامت القوّات الإسرائيليّة بقتل عدد كبير من الجنود المصريّين في رفح وخان يونس، ممّا دفع الحكومة المصريّة إلى جعل مخابراتها الحربيّة تساعد المقاومة والمقاومين الفلسطينيّين، حيث قامت إسرائيل بعد ذلك بردّ فعل عنيف، وتحالفت مع فرنسا وبريطانيا، وقامت بالهجوم على مصر سنة 1956م.
ودفع أهل غزّة الثمن باهظًا، وما زالوا يدفعونه في الحرب المستمرّة على الفلسطينيّين، وليس ذلك بمستغرب؛ لأنَّ قطاع غزّة كان بوتقة المقاومة الفلسطينيّة، وشرار الغضب في قلوب الفلسطينيّين بعد سلبهم وتهجيرهم عام 1948م.
وتمَّ تلخيص القضيّة الفلسطينيّة في الأمم المتَّحدة تحت عنوان: الصراع العربيّ الإسرائيليّ، وقامت الدول العربيّة بتمثيل المصالح الفلسطينيّة بشكلٍ ضعيف.
وفي عام 1964م تشكَّلت منظَّمة التحرير الفلسطينيّة تحت إشراف الجامعة العربيّة بطلب من مصر. ونادت بشنّ حملة من الكفاح المسلَّح المباشر ضدّ إسرائيل، بدأت بهجوم في الأوَّل من يناير عام 1965م لكي تدفع نحو تحقيق أحد أهدافها، وكان هدف الهجوم تعطيل محطّة لضخّ الماء في وسط إسرائيل، وكان الهجوم رمزيًّا أكثر منه عمليًّا.
وكان المسئولون المصريّون ينظرون بعين الشكّ والريبة إلى حركة فتح، ويعدّونها مدفعًا منفردًا يحرّض إسرائيل بتهّور، في وقتٍ كانت فيه مصر مشغولة بتدخل عسكريّ في حرب أهليّة في اليمن، ومنهمكة في بناء اقتصادها.
وقد عانى قادة المقاومة الفلسطينيّة ومنهم ياسر عرفات وصلاح خلف أبو إياد وخليل الوزير أبو جهاد، من العراقيل التي وضعتها المخابرات المصريّة مثل الاعتقال والتعذيب والمضايقة لإعاقة تنظيم جهودهم في مواجهة إسرائيل.
وقد نشأ أغلب القادة المؤسّسين لحركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينيّة في الأحياء المزدحمة في قطاع غزّة الساحليّ الضيّق، ثمَّ كانت غزّة بعد ذلك مولدًا ومعقلًا لحركة الجهاد الإسلاميّ وحركة حماس وهما أقوى الحركات المتصدّية للكفاح المسلّح ضدّ إسرائيل في الوقت الحاليّ.