في كتابه "حرب المئة عام على فلسطين"، وضح رشيد الخالديّ أن الصراع في فلسطين يجب أن يُفهم، ليس كصراع بين حركتين قوميتين متساويتين تتنازعان على نفس الأرض، بل على أنه "حرب استعمارية تخاض ضد السكان الأصليين، من قبل أطراف مختلفة، لإجبارهم على التخلي عن وطنهم لشعب آخر ضد إرادتهم".
ويأتي هذا الكتاب سابراً أغوار التاريخ، مقسمًا أهم الأحداث لستة أقسام رئيسية، يشكّل كل واحد منها إعلان حرب مباشر على فلسطين، تبدأ هذه الأحداث الستة بوعد بلفور سنة 1917 الذي حدَّد مصير فلسطين، إلى حصار اسرائيل لغزة، وينتهي باعتراف دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل عام 2017، ولم تنته إعلانات الحرب المتتابعة حتَّى يومنا هذا.
يبدأ الكتاب بفحص مراسلات تعود إلى عام 1889م بين عمّ المؤلف الأكبر يوسف ضياء الدين باشا الخالديّ، رئيس بلدية القدس، وثيودور هرتزل، والد الصهيونيّة السياسيّة الحديثة. اتضحت في تلك المراسلات وغيرها من الوثائق التي استعرضها الخالدي النوايا الاستعمارية للحركة الصهيونية منذ اللحظات الأولى؛ إذ تشترك مع الحملات الاستعماريّة في أنَّها قامت:
أوَّلًا: على خطاب استعلائيّ تحقيريّ للسكّان الأصليّين، فقد كتب هرتزل أنَّ الدولة اليهوديّة "ستكون جزءًا من جدار دفاعيّ عن أوروبا في آسيا، وقلعة أماميّة من الحضارة ضدّ البربريّة". ولا تزال هذه السمات حاضرة في الخطاب الصهيونيّ إلى يومنا هذا، فعضو حزب الليكود في الكنيست، ميكي زوهار، صرَّح في عام 2017م قائلًا:
"إنّ الفلسطينيّين يعانون من نقيصة واحدة كبيرة: أنَّهم لم يولدوا يهودًا"
ثانيًا: على إعادة توصيف الأرض المستعمرة، فقد كتِب الكثير عن فلسطين بوصفها أرضًا جرداء وقاحلة وفارغة، وأنَّ المهاجرين اليهود هم الوحيدون الذين حوّلوا هذه البلاد إلى حديقة مزهرة غنّاء.
ثالثًا: على التهديد باستخدام القوّة المفرطة ضدّ الأكثرية العربيّة، فقد عدَّت تصريحات الزعيم الصهيونيّ زئيف جابوتنسكي (1880م–1940م) أشدّ الآراء وضوحًا وصراحة في التعامل مع السكّان العرب، كقوله:
"لا يتقدّم الاستعمار الصهيونيّ، ولا يمكن أن يتطوّر، إلَّا تحت حماية قوّة مستقلّة عن السكّان المحليّين وراء جدار حديديّ، لا يستطيع السكان المحليّون اختراقه".
في إعلان الحرب الأوَّل، يُظهر الخالديّ وجود مدنيّة فلسطينيّة حديثة قبل الوجود الاستعماريّ على أرضها، وهو ما يناقض الكثير من السرديّات الصهيونيّة حول المدن الفلسطينيّة، ومن مظاهر تلك المدنيّة:
وقد عانت فلسطين من اضطرابات شديدة خلال فتره الحرب العالميّة الأوَّلى، مثل معظم الدول العربيّة، فقد ذكر المؤلِّف حادثة نقلها عن عمّه، أنَّه شاهد عشرات الجثث من الناس الذين ماتوا جوعًا في الطرقات في مدينة القدس.
كما كانت الحرب على شواطئ فلسطين عنيفة للغاية حيث دكَّت القوّات البريطانيّة بأسطولها الحربيّ المدن الواقعة على شاطئ البحر المتوسّط وكانت أكثر المدن تضرُّرًا هي مدينة غزّة وذلك في عام 1917م.
وفي السنوات العشر الأولى من القرن العشرين كان اليهود يعيشون في فلسطين مثل باقي الفلسطينيّين.
أدرك كثير من المثقّفين الفلسطينيّين قبل الحرب العالميّة الأولى مخاطر الحركة الصهيونيّة وعدُّوها تهديدًا للشعب الفلسطينيّ في أرضه التاريخيّة. والصحف والمذكِّرات الفلسطينيّة تثبت أنَّ هناك وعيًا جماعيًّا لدى الفلسطينيِّين بقضيّة بلادهم منذ الوهلة الأولى.
وأسّست الحركة الصهيونيّة 18 مستعمرة جديدة على أراضٍ كانت قد اشترت أغلبها من ملّاك غائبين. وكانت الحركة الصهيونيّة تحمل مشروعًا استعماريًّا يبحث عن راعٍ من القوى العظمى حتى ضمنت الدعم البريطانيّ.
يتناول الفصل الأوَّل من الكتاب وعد بلفور، الذي أعلن عن دعم الإمبراطوريّة البريطانيّة لـ "إنشاء وطن قومي للشعب اليهوديّ في فلسطين"، تلى ذلك في عام 1922م، قيام عصبة الأمم بإعلان انتداب فلسطين تحت السيطرة البريطانيّة وانتهاء الوجود العثمانيّ وسقوط الدولة العثمانية.
وقد أَلغى صكّ الانتداب البريطانيّ -بموادّه البالغ عددها ثماني وعشرين مادّة- الحقوق القوميّة والسياسيّة للشعب الفلسطينيّ مثله مثل وعد بلفور، فأحد النصوص الأساسيّة في صكّ الانتداب هو المادّة الرابعة التي منحت الوكالة الصهيونيّة صلاحيّات شبه حكوميّة بصفتها مؤسّسة أهليّة ذات سلطات واسعة.
ذلك كلُّه يحدث في الوقت الذي لم تشر أيّة وثيقة أمميّة إلى "الوجود العربيّ" أو "الفلسطينيّ" أو حقوقهم الوطنيّة. كما مثَّلت الوكالة اليهوديّة في فلسطين الأقليّة اليهوديّة بطريقة رسميّة ومعترف بها، وعملت كإدارة شبه حكوميّة على مدى السنوات الـستّ والعشرين التالية، ولم تكن هناك مؤسّسة مماثلة لتمثيل الأغلبيّة العربيّة.
كانت الوكالة اليهوديّة قد مُنِحَتْ أذرعة حكم حيويّة من جهة انتداب عصبة الأمم، بينما لم يكن لدى الفلسطينيّين وزارة خارجيّة ولا دبلوماسيّين، ولا أيّة إدارة حكوميّة ولا قوّة عسكريّة منظَّمة مركزيًا.
وكان الفلسطينيّون المتعلِّمون يدركون جيِّدًا أنَّ دعوة الصهاينة لهجرة اليهود غير المحدودة حتمًا سوف تؤدّي إلى أغلبيّة يهوديّة وتسمح بالاستيلاء على البلاد. وظلَّت الهويّة الفلسطينيّة تترسَّخ باستمرار بسبب تحيُّز بريطانيا في دعم المشروع الصهيونيّ.
وقد حاول الفلسطينيّون تنظيم أنفسهم سياسيًّا بعد الحرب العالميّة الأولى، فعقدوا سبعة مؤتمرات عربيّة في الفترة من عام 1919م - 1928م. وكان أهم مطالبهم استقلال فلسطين العربيّة ورفض وعد بلفور وتأييد حكم الأغلبية وإنهاء الهجرة اليهوديّة غير المحدودة إلي فلسطين ووقف شراء الأراضي.
وبدأ المستعمر البريطانيّ في دمج المستوطنين الصهاينة -المجموعين من كلّ حدب وصوب- إلى المؤسّسات التي كوَّنها، وذلك لإكسابهم الخبرة، وتوسيع نشاط العمل الاقتصاديّ لرأس المال اليهوديّ، وكذلك بدأت جهود إحياء اللغة العبريّة أي إنَّ الهويّة اليهوديّة الاستيطانيّة صنعت من خلال المؤسّسات التي لم يسمح لأهل فلسطين بإنشاء أيٍّ منها.
وفي الوقت نفسه عامل البريطانيّون الفلسطينيّين بالازدراء والتهميش ذاته الذي تعاملوا به مع رعاياهم من الشعوب الأخرى من هونج كونج إلى جامايكا.
كما مارست بريطانيا إبادة سياسيّة للشعب الفلسطينيّ بإنكار حقوقه وحرمانه من أرضه ونفي صلته وارتباطه التاريخيّ بها.
تطوُّر الوجود اليهوديّ في ظلّ الانتداب البريطانيّ
في سنة 1935م وحدها هاجر إلى فلسطين أكثر من 60 ألف يهوديّ و يعتبر هذا العدد أكبر من عدد جميع السكّان اليهود في فلسطين سنة 1917م .
وفي الثلاثينيّات وللمرّة الأولى تفوّق الاقتصاد اليهوديّ في فلسطين على القطاع العربيّ، وفي عام 1939م ارتفع عدد السكّان اليهود ليصبح 30% من عدد السكان الإجماليّ.
واستمر الفلسطينيّون في مقاومة الانتداب البريطانيّ والمشروع الصهيونيّ وعبَّروا عن الغضب الشعبيّ من استيلاء الصهاينة على بلادهم، بأن قاموا بهجمات متفرّقة في الأرياف والقرى، والتي وصفها البريطانيّون والصهاينة بهجوم العصابات.
وتطوَّرت المقاومة وقام الإضراب العامّ سنة 1936م، والذي سرعان ما تحوّل إلى ثورة شعبيّة عفويّة، بدأت من القاع إلى القمّة، وفاجأت البريطانيّين والصهاينة.
وقد تمّ إعدام الكثير من الفلسطينيّين مباشرة على يد الجنود البريطانيّين لأسباب واهية وظالمة ومنها على سبيل المثال إعدام الشيخ فرحان السعديّ سنة 1937م بسبب امتلاكه طلقة واحدة من الرصاص.
وعندما غادر البريطانيّون فلسطين سنة 1948م لم تكن هناك حاجة لخلق أجهزة للدولة اليهوديّة؛ فقد كانت هذه الأجهزة تعمل بشكل واقعيّ تحت حماية البريطانيّين من عقود.