هذا الفصل من أهم فصول الكتاب وأطولها، وقد عالجه المؤلف وفق العناوين التالية: (التنجيم، الوحدة الكمية، مثال على الوحدة التشريعية، مثال على الوحدة التاريخية، الصورة الأدبية للقرآن، مضمون الرسالة، العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس، ما وراء الطبيعة، أخرويات، كونيات، أخلاق، اجتماع، تاريخ الوحدانية).
ويؤكد المؤلف أن الوحي من حيث كونه ظاهرة تمتد في حدود الزمن، يتميز بخاصتين ظاهرتين هامتين، وهما: تنجيم الوحي. ووحدته الكمية. ويقصد مالك بتنجيم الوحي نزوله منجما يعني مفرقا على دفعات وفترات. وهو يقرر بهذا الصدد أن القرآن لو نزل جملة واحدة، لتحول سريعا إلى كلمة مقدسة خامدة، وإلى فكرة ميتة، وإلى مجرد وثيقة دينية، لا مصدر يبعث الحياة في حضارة وليدة. وفوق ذلك فهو يرى أن الحركة التاريخية والاجتماعية والروحية التي نهض بأعبائها الإسلام، لا سر لها إلا في هذا التنجيم. ويقصد بالوحدة الكمية أن آياته تنزل لمعالجة موضوع معين ومحدد، يقول في بيان هذا المعنى:
"فكل وحي مستقل يضم وحدة جديدة إلى المجموعة القرآنية". وقد تحدى القرآن الكريم العرب فيما برعوا فيه وهو فنون القول والبيان، وعلى الرغم من ذلك لم يستطع أحد معارضته، ولم يذكر التاريخ أن أحدا قد أجاب على هذا التحدي، وبهذا يمكن أن نستخلص أنه قد ظل دون تعقيب، وأن إعجازه الأدبي قد أفحم بالفعل عبقرية ذلك العصر. إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لشيء فريد، طبقا لتعبير القرآن نفسه: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38]، فهو يبدأ حديثه من (ذرة الوجود المستودعة في باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار) إلى (النجم الذي يسبح في فلكه)، وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني، فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس.
وحول العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس يذكر المؤلف أن القرآن على الرغم من أنه يعلن بكل وضوح التشابه والقرابة إلى الكتب السابقة، فإنه يحتفظ بصورته الخاصة في كل فصل من فصول الفكرة التوحيدية. إن خلود الروح، تلك الفكرة الجوهرية في ثقافة التوحيد، يستتبع نتائج منطقية هي: نهاية العالم، ويوم الحساب، والجنة، والنار. وفي المبحث المتعلق بالحديث عن ما وراء الطبيعة، يؤكد المؤلف أن الإسلام يعرض عقيدته الغيبية الخاصة بطريقة أكثر مطابقة للعقل، وأكثر تدقيقا، وفي اتجاه أكثر روحية.
ومن أهم الوقفات التي يقف عندها المؤلف في هذا الفصل مسألة العلاقة بين القرآن والكتاب المقدس، ولتوضيح هذه العلاقة يقارن المؤلف بين قصة يوسف عليه السلام، كما وردت في القرآن، وكما وردت في العهد القديم. ويخلص من خلال هذه المقارنة إلى أن رواية القرآن تنغمر باستمرار في مناخ روحاني، نشعر به في مواقف وكلام الشخصيات التي تحرك المشهد القرآني. وأيضا فإن نتيجة هذه المقارنة تدفع فرضين اثنين؛ الأول: وجود تأثير يهودي مسيحي في الوسط الجاهلي. ثانيهما: كون النبي صلى الله عليه وسلم تلقى تعليما مباشرا عن الكتب السابقة . لقد جعل القرآن من تحرير العبيد مبدأ خلقيا عاما، وإذا ما ارتكب المسلم نوعا من المخالفات الشرعية يتحول العتق إلى شرط شرعي للتوبة والغفران، فإذا كنا قد لاحظنا التشابه بين القرآن والكتب المقدسة فإننا نلاحظ الآن الطابع المميز لصورته الخاصة.
ما الفرق بين الأخلاق اللادينية وأخلاق الدين التوحيدي؟
إن الأخلاق اللادينية - بقدر ما لهذا التعبير من معنى - تقيم أعمال الإنسان على أساس المنافع الشخصية العاجلة، التي صارت أساس المجتمع المدني؛ على أن الأخلاق الدينية (التوحيدية) تحترم أيضا المنفعة الشخصية، ولكنها تمتاز برعاية منافع الآخرين ، وهي بذلك تدفع الفرد إلى أن ينشد دائما ثواب الله قبل أن يهدف إلى فائدته.
وهل الإسلام من صنع اليهودية والمسيحية؟
بالطبع لا، والسبب أن الفكرة اليهودية المسيحية لو كانت قد تغلغلت حقا في الثقافة والبيئة الجاهلية فإن من غير المفهوم ألا توجد ترجمة عربية للكتاب المقدس.