في هذا الفصل يقرر المؤلف أنه لا يمكن الاستغناء في دراسة الظاهرة القرآنية عن معرفة الذات المحمدية، ومن هنا عكف على دراسة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بدءا بطفولته، ومرورا بزواجه بخديجة رضي الله عنها، وصولا إلى بعثته والوحي إليه.
كانت مرحلة ما قبل بعثة النبي مرحلة مهمة في تكوين شخصيته، فهو النبي المطهر صلى الله عليه وسلم الذي اختاره ربه لأعظم مهمة في التاريخ، ففي فترة شبابه كان يلقب بالصادق الأمين، وشباب قريش وفتيانها شهدوا له بذلك، ومنهم: خالد بن الوليد وعثمان بن عفان وغيرهما. وهذه الشهادة التاريخية تعطينا تفصيلا ثمينا للصورة النفسية التي نحاول رسمها، ومع ذلك فإن حياته العادية البسيطة تستمر دون شيء خاص يجعله يغير مسار حياته صلى الله عليه وسلم.
ومن الخطأ التسليم لآراء النقد الحديث - ولا سيما آراء الأستاذ (درمنجهام) - بأن الدافع القوي لتشكيل شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان البحث والقلق، وإرادة التكيف ومحاولة ابتكار فكرة الدين عند النبي، بل على العكس تماما فالأدلة تثبت أن المشكلة الغيبية لم تفارق ضميره فقد كان عنده حلها، وجزء من هذا الحل هو إلهامي وشخصي . وجزء آخر هو موروث لأن إيمانه بإله واحد إنما يأتيه من الجد البعيد إسماعيل. وهناك تفاصيل نفسية شكلت العزم النهائي عند محمد صلى الله عليه وسلم على قبول دعوته الإلهية والثبات عليها مهما كلف ذلك، سوف يقبلها في الواقع، ولن يتخلى عنها أبدا، لا شيء سيرغمه على التخلي عنها، لا مصالح أسرته، ولا توسلات عمه الوقور أبي طالب، وعندما جاءه عمه لكي يفاتحه في أمر قريش، واضعا تحت نظره الإجراءات القاسية التي رتبوها في حالة ما إذا رفض عروضهم، أجابه وقد دمعت عيناه: "والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
وأمام هذه العزيمة الخارقة لم يتمالك ذلك العم إلا أن يطمئن ابن أخيه بحمايته حتى النهاية. ولم يستجب أيضا لاقتراح قريش عليه أن يتولى أرقى منصب في إدارة المدينة، فهذا كله لم يحول الرسول عن طريقه الثابت إلى النهاية. وحينما أذن الله لنبيه في الهجرة، هاجر إلى المدينة، وكان أبرز أهدافه في المدينة أن يقر فيها السلام، ويخلصها من خصوماتها الداخلية، ويصلح ما بين الأوس والخزرج، لتنظيم دفاع فعال ضد الأعداء في الخارج: (قريش).
بناء النبي لشخصيات أصحابه: لم يصنع الرسول نفوسا مؤمنة تقية فحسب، وإنما صنع عقولا مستنيرة. وإرادات فولاذية، إنه ينمي الشعور بالمسؤولية، ويشجع المبادأة في كل إنسان، ويعظم الفضيلة في أبسط صورها، إذ يرى نفسه في سباق إلى الخير، بحسب أمر القرآن.
سعى المؤلف في هذا الفصل إلى تمييز السمات الخاصة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لكي يتوصل من خلال ذلك إلى أن ظاهرة الوحي خارجة عن شخصه، وأنها ليست ظاهرة ذاتية (يعني صدق الوحي) وليست حالة ذاتية يمر بها النبي كما ذهب إلى ذلك كثير من المستشرقين. ثم يحدد معنى الوحي بأنه: "المعرفة التلقائية والمطلقة لموضوع لا يشغل التفكير، وغير قابل للتفكير".