“إن رحابة الموضوعات القرآنية وتنوعها لشيء فريد، طبقاً لتعبير القرآن نفسه "مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ [ الأنعام ١/۲۸ ] " فهو يبدأ حديثه من ( ذرة الوجود المستودعة باطن الصخر والمستقرة في أعماق البحار ) إلى ( النجم الذي يسبح في فلكه نحو مستقره المعلوم ) وهو يتقصى أبعد الجوانب المظلمة في القلب الإنساني فيتغلغل في نفس المؤمن والكافر بنظرة تلمس أدق الانفعالات في هذه النفس . وهو يتجه نحو ماضي الإنسانية البعيد ونحو مستقبلها، كيما يعلمها واجبات الحياة، وهو يرسم لوحة أخّاذة لمشهد الحضارات المتتابعة، ثم يدعونا إلى أن نتأمله لنفيد من عواقبه عظة واعتباراً”.
إذا كان صحيحاً أن القرآن معجزة مستمرة، وإذا كانت علائم صدقه من ناحية أخرى لا تنحصر في عبارته فحسب، بل في عالمي الطبيعة والنفس أيضاً كما يقول القرآن نفسه {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت 41/ 53]. إذا كان الأمر كذلك فإن واجباً يقع على كل مؤمن متصل بمعطيات العلم.
و الحق انه لا يوجد مسلم و خاصة في البلاد غير العربية ،يمكنه ان يوازن موضوعيا بين آية قرآنية ،و فقرة موزونة أو مقفاة من أدب العصر الجاهلي ،فمنذ وقت طويل لم نعد نملك في اذواقنا عبقرية اللغة العربية.
إن الأعمال الأدبية لهؤلاء المستشرقين قد بلغت في الواقع درجة خطيرة من الإشعاع لا نكاد نتصورها، وحسبنا دليلاً على ذلك أن يضم مجمع اللغة العربية في مصر بين أعضائه عالماً فرنسياً. وربما أمكننا أن ندرك ذلك إذا لاحظنا عدد رسالات الدكتوراه، وطبيعة هذه الرسالات التي يقدمها الطلبة السوريون والمصريون كل عام إلى جامعة باريس وحدها، وفي هذه الرسالات كلها يصرون - وهم أساتذة الثقافة العربية في الغد وباعثو نهضة الإسلام- يصرون كما أوجبوا على أنفسهم، على ترديد الأفكار التي زكاها أساتذهم الغربيون.
ولنأخذ على ذلك مثلاً: (البوصلة ومقياس الزاوية)، فعلى الرغم من أنهما من إنتاج أفكار المسلمين الفنية، فإن العالم الإسلامي لم يستخدمهما مثلاً في اكتشاف أمريكا، لأنه كان مشلولاً آنذاك عن التقدم العقلي والاجماعي بأفكار شعبية ميتة. أليست هذه هي المأساة التي أراد الغزالي أن يعبر عنها في بيته المشهور:
لقد نضبت فعلاً المصادر المحلية من كنوزها الثقافية، مولية وجهها شطر المكتبات الأهلية في أوربا، والحق أن مصر قد بذلت جهداً عظيهاً كيما تضع في متناول الفكر الإسلامي أدوات جديدة للعمل وذلك بما أتيح لها من مطابع حديثة، وعمل جاد اضطلع به شبابها الفتي المتعلم. ولكن هذا الجهد نفسه يعيش في كنف الدهاء الإداري الموروث من عهد الاستعمار.
الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد أو يدركها بالتذوق العلمي فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي وعلى الرغم من هذا فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب (الإعجاز) لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقاً للتحلیل الباطن، كما حاولنا أن نطبقها في هذا الكتاب”
وعليه يجب أن يكون (إعجاز) القرآن صفة ملازمة له عبر العصور والأجيال وهي صفة يدركها العربي في الجاهلية بذوقه الفطري كعمر رضي الله تعالى عنه أو الوليد أو يدركها بالتذوق العلمي فعل الجاحظ في منهجه الذي رسمه لمن جاء بعده. ولكن المسلم اليوم قد فقد فطرة العربي الجاهلي وإمكانيات عالم اللغة في العصر العباسي وعلى الرغم من هذا فإن القرآن لم يفقد بذلك جانب (الإعجاز) لأنه ليس من توابعه بل من جوهره؛ وإنما أصبح المسلم مضطراً إلى أن يتناوله في صورة أخرى وبوسائل أخرى فهو يتناول الآية من جهة تركيبها النفسي الموضوعي أكثر مما يتناولها من ناحية العبارة، فيطبق في دراسة مضمونها طرقاً للتحلیل الباطن، كما حاولنا أن نطبقها في هذا الكتاب”.
“ولقد نجهل مؤقتا القانون الذي يسيطير على ظاهرة ما زالت تخفي علينا طريقة حدوثها ، ومع ذلك فإن المذهب يظل منسجما منطقياَمع مبدئه الأساسي، لأن مثل هذه الظاهرة يمكن تسويغها في التحليل النهائي بناء على حتمية مطلقة، فإرادة الله هي التي تتدخل هنا، بينما كانت الصدفة هي التي تتدخل هناك، تلك الصدفة التي تعد الإله القادر على كل شئ في المذهب المادي.”