المدينةُ الوَهْمِيَّة
وفي عام ألفين وأربعةٍ ميلاديًّا (2004م)، قام الجيش الإسرائيليُّ ببناء مدينة عربيَّة وهميَّة في صحراء النقب بتكلفة خمسةٍ وأربعين (45) مليون دولار. وتحوَّلت هذه المدينة إلى غزَّة وهميَّة عام ألفين وستًّةٍ ميلاديًّا (2006م) بعد مقاومة حزب الله ضدّ إسرائيل. ولقد تمَّ تدريب الجنود على مهاجمة غزَّة كما لو كانوا يهاجمون معقلًا كبيرًا للعدوّ، وبقوَّة نيرانٍ واسعة النطاق، وفي غياب الإجراءات المناسبة، والجهود العسكريّة المنسَّقة باستخدام الأسلحة البرِّيَّة والبحريَّة والجوِّيَّة.
وقد تمَّ تدريب الجنود على التدمير الوحشيّ، وقصف المدنيِّين بصواريخ الفوسفور، وقتل المدنييِّن الأبرياء بالسلاح. ولقد تمَّ توجيههم إلى إطاعة الأوامر دون ضوابطَ أخلاقيةٍ والتصرُّف دون قيود أخلاقيَّة. ووصف أحد الجنود شعوره بأنَّه طفل يحمل عدسة مكبِّرة ويعذِّب النمل َبحرقِه.
ولقد دمَّر الجنود المدينة الحقيقيَّة كما تمَّ تدريبهم على تدمير المدينة الخياليَّة. وكانت هذه هي النسخة الجديدة من السجن شديد الحراسة الذي كان ينتظر الفلسطينيِّين في قطاع غزَّة. وأدركت الحكومة الإسرائيليّة أنَّ نموذج السجن المفتوح الذي كان يهدف إلى احتجاز سكان قطاع غزَّة تحت الحكم التعاونيِّ للسلطة الفلسطينيَّة ، قد تمَّ إسقاطه من قِبَل السكَّان أنفسهم. وقد فشل الانتقام الذي تضمَّن فرض الحصار والقيود على قطاع غزَّة للاستسلام للنموذج الإسرائيليّ المفضَّل. وردَّت الأحزاب والفصائل السياسيَّة الفلسطينيَّة بقيادة حماس بإطلاق صواريخ بدائيَّة للحفاظ على تواجدها داخل السجن المغلق.
ولقد تمَّ الكشف عن الفشل الإسرائيليِّ في عام ألفين وخمسةٍ ميلاديًّا (2005م) باعتباره إبادةً جماعيةً تدريجيَّةً لفلسطين. وأشار الإسرائيليّون إلى عمليَّتهم الأولى ضدّ غزَّة باسم "المطر الأوَّل"، لكنَّه كان مطرًا من نار يهطل من السماء، وليس ماءً.
المطرُ الأوَّل
بدأت عسكرة السياسة الإسرائيليّة تُجاه قطاعِ غزَّة في عامِ 2005م، حيث أصبحت غزَّة هدفًا عسكريًّا رسميًّا من وجهة النظر الإسرائيليّة. وقد سمح قرار الحكومة الإسرائيليّة بإجلاء اليهود الذين استقرُّوا في قطاع غزَّة منذ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وستِّين ميلاديًّا (1967م) بتنفيذ هذه السياسة. وأعرب رئيس الوزراء أرييل شارون عن أمله في تحويل القطاع إلى منطقة مماثلة للمنطقة أ في الضفَّة الغربيَّة وتشديد قبضة إسرائيل على الضفَّة الغربيَّة. إلَّا أنَّ الأمور لم تسر كما كان متوقَّعًا، وسيطرت حماس على السلطة عبر انتخابات ديمقراطيَّة في سبتمبر/أيلول عام 2005م.
وكان الردُّ الإسرائيليُّ الفوريُّ هو فرض حصار اقتصاديّ على قطاع غزَّة، وهو ما ردَّت عليه حماس بإطلاق الصواريخ على مستوطنة سديروت. وقد وفر هذا التطوُّر لإسرائيل الذريعة لاستخدام القوَّات الجوِّيَّة والبحريَّة والمدفعيَّة. وشبَّه المقرِّر الخاصّ للأمم المتَّحدة جون دوغارد سياسة إسرائيل في قطاع غزَّة ببناء سجن وإلقاء مفتاحه في البحر. وردَّ الفلسطينيّون بقوَّة في سبتمبر/أيلول عام 2005م، عازمين على إثبات أنَّهم ما زالوا جزءًا من الضفَّة الغربيَّة وفلسطين. وفي الشهر نفسه أطلقوا أوَّل دفعة كبيرة من الصواريخ، من حيث العدد، وليس النوع، على النقب الغربيّ. وكثيرًا ما تسبَّبت هذه الصواريخ في أضرار مادِّيَّة لكنَّها نادرًا ما تسبَّبت في وقوع إصابات بشريَّة.
وقد نفذ الجيشُ الإسرائيليُّ سياسةً قاسيةً للقتل الجماعيّ كانت الأولى من نوعها، والمعروفة باسم "المطر الأوَّل". وكانت العمليَّة عملًا عدوانيًّا مروِّعًا نفذَّته السلطة القمعيَّة، وأدَّى إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى. وفي عمليَّة المطر الأوَّل، حلَّقت الطائرات الحربيَّة بسرعة تفوق سرعة الصوت فوق غزَّة، ممَّا تسبَّب في حالة من الذعر بين المدنيِّين وتكثيف القصف على مناطق واسعة من الجوّ والبرّ والبحر. وقال الجيش الإسرائيليّ إنَّه يهدف إلى ممارسة الضغط لإضعاف دعم سكان غزَّة لمنصَّات إطلاق الصواريخ. وكما توقع الجميع، بما في ذلك الإسرائيليّون، أدَّت العمليَّة إلى زيادة الدعم لمطلقي الصواريخ، ممَّا أعطاهم زخمًا للقيام بمحاولات جديدة.
وإذا نظرنا إلى الوراء، فمن المحتمل أن يكون الهدف الحقيقيّ لعمليَّة الرصاص المصبوب في عام 2008م - 2009م هو إجراء اختبار. وإذا أراد جنرالات إسرائيل أن يعرفوا كيف سيتمُّ استقبال مثل هذه العمليَّات في بلادهم والمنطقة والعالم بشكل عامّ، فيبدو أنَّ حكومات العالم جمعاء لم تهتمَّ بعدد القتلى ومئات الجرحى الفلسطينيِّين الذين سقطوا. ضحيَّة عملية "المطر الأوَّل". واستمرَّت العمليَّات اللاحقة بنفس الطريقة، مع المزيد من النيران والإصابات والأضرار المادِّيَّة، وكما كان متوقَّعًا، تَرتَّبَ المزيد من الحصار والقيود.
إنَّ القتلى البالغ عددُهم نحوَ ألفٍ وخَمسِمئة ضحيَّةٍ (1500) وآلاف الجرحى وعشرات الآلاف الذين فقدوا بيوتهم، لا يكفون لرواية القصَّة الكاملة. فوحده استعمال القوَّة العسكريَّة في مكان شديد الازدحام بالمدنيِّين كالقطاع يترك أضرارًا جانبية كتلك التي شوهدت، كما عكس ذلك رغبة من الجيش في تجربة أسلحة جديدة تهدف كلُّها إلى قتل المدنيِّين وذلك في إطار ما سمَّاه رئيس الأركان السابق، موشيه يعالون الملقَّب «بوغي»، الحاجةَ إلى زرع صورة القوَّة المخيفة للجيش الإسرائيليّ في الوعي الفلسطينيّ . وأضيف إلى الواقع بعدٌ جديد أكثرُ خبثًا وانتهازيّة؛ فالدعم الدوليُّ والعربيّ وعد بتقديم مليارات الدولارات للمساعدة في بناء ما قد تهدمه إسرائيل مرَّةً ثانية في المستقبل. فحتَّى أسوأ الكوارث يمكنها أن تكون مربحة.
والسجن الكبير والمتوحِّش الذي فكَّرت إسرائيل في إنشائه عام ألفٍ وتِسعِمِئة وثلاثةٍ وستِّين ميلاديًّا (1963م) وأنجزت بناءه عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وستِّين ميلاديًّا (1967م)، يبلغ عمره مع نهاية هذا الكتاب خمسين سنة. وما زال الجيل الثالث من السجناء ينتظر من العالم الاعتراف بمعاناته، وإدراك أنَّ الاستمرار في قمعه يجعل من التعامل مع هذه الظاهرة بشكل بنَّاء في المناطق الأخرى من الشرق الأوسط وبالأخصِّ في سوريا أمرًا مستحيلًا؛ فالحصانة التي حظيت بها إسرائيل في السنوات الخمسين الأخيرة تشجِّع الآخرين، سواءٌ أكانوا أنظمةً أم تياراتٍ معارضة على الاستهانة بالحقوق الإنسانيَّة والمدنيَّة في الشرق الأوسط. وإنَّ تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين يبعث برسالة مختلفة، أكثر تفاؤلًا، لكلِّ من يعيش في هذا الجزء المضطرب من العالم.