تمثيليَّةُ أوسلو والانتفاضةُ الثانية

في الثالث (13) عشر من سبتمبر/أيلول عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثلاثةٍ وتسعين ميلاديًّا (1993م)، وقَّعت إسرائيل ومنظَّمة التحرير الفلسطينيَّة اتِّفاقيَّات أوسلو، إيذانًا بنهاية فترة طويلة من المفاوضات التي بدأت في عام 1992م. وقبل ذلك كانت إسرائيل ترفض التفاوض مباشرة مع منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة  حول مصير الفلسطينيِّين والضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة أو َّ الفلسطينيَّة بشكل عامّ. لقد سمح التحوُّل في الموقف الإسرائيليّ بإجراء مفاوضات مباشرة مع منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة  لعدَّة أسباب:

فأوَّلًا: أدَّى فوز حزب العمل في انتخابات عام ألفٍ وتِسعِمِئة واثنين وتسعين ميلاديًّا (1992م) وتشكيل حكومة أكثر اهتمامًا  بإيجاد حلٍّ سياسيٍّ إلى إنشاء الخطّ المباشر. وثانيًا: أدَّى الخوف الإسرائيليُّ من مؤتمر مدريد للسلام، وهو مشروع أميركيٌّ لدفع إسرائيل والفلسطينيِّين والعالم العربيّ إلى الاتِّفاق على حلٍّ بعد حرب الخليج الأولى؛ إلى إنشاء منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة  في تونس.

وأرادت النخبة الإسرائيليّة آنذاك إجهاض هذه المبادرة وإطلاق مبادرة سلام خاصَّة بها، بينما كان ياسر عرفات غير راضٍ عن إطار العمل الذي طرح في مؤتمر مدريد. وقامت منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة  بإنشاء وزارة في تونس للمفاوضات الجانبيَّة الجارية.

وفي أغسطس/آب عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثلاثةٍ وتسعين ميلاديًّا (1993م)، التقى الطرفان علنًا للمرَّة الأولى، وبمشاركة أميركيَّة، ووضعا اللمسات الأخيرة على إعلان المبادئ. وقد تمَّ الاحتفال بهذه الخطوة باعتبارها ترسم نهاية نهائيَّة للصراع عندما تمَّ التوقيع عليها في هذه الأجواء.

وهناك أسطورتان مرتبطتان باتِّفاقيَّات أوسلو: الأولى: أنَّها كانت عمليَّة سلامٍ صادقة، والثانية: أنَّها تُعَدُّ عمليَّةً إرهابيةً كبرى ضدّ إسرائيل. والحقيقة أكثر تعقيدًا؛ إذ كان من المستحيل تحقيق شروط المفاوضات، كما أنَّ الادِّعاء بأنَّ عرفات رفض احترام التعهُّدات الفلسطينيَّة  التي تضمَّنها اتِّفاق عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثلاثةٍ وتسعين ميلاديًّا (1993م) هو ادِّعاءٌ غير دقيق.

وقد شارك الزعيم الفلسطينيّ في مفاوضات التسوية النهائيَّة مع رئيس الوزراء الإسرائيليّ إيهود باراك والرئيس كلينتون اللذَين طالبَا بدولة فلسطينيَّة منزوعة السلاح وعاصمتها بالقرب من فلسطين تسمَّى أبو ديس.

 إنَّ إعطاء هذا الترتيب وضعًا رسميًّا كان سيعني نهاية الصراع ويلبِّي أيَّةَ مطالب فلسطينيَّة؛ مثل حقّ العودة للَّاجئين الفلسطينيِّين في عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا  (1948م).

التقسيم

لقد كانت عمليَّة أوسلو للسلام اقتراحًا فاشلًا منذ البداية؛ حيث بقي مبدؤنا دون إجابة: فرض التقسيم الجغرافيّ أو الإقليميّ كأساسٍ حصريٍّ للسلام، وإنكار حقِّ اللاجئين الفلسطينيِّين في العودة، واستبعادهم من طاولة المفاوضات. وكان المبدأ الأوَّل هو فرض التقسيم الجغرافيّ أو الإقليميّ كأساسٍ حصريٍّ للسلام، وهو المبدأ الذي ظهر لأوَّل مرَّة عام ألفٍ وتِسعِمِئة وسبعةٍ وثلاثين ميلاديًّا (1937م) في تقرير لجنة بيل الملكيَّة المعيَّنة من قبل الحكومة البريطانيَّة. واقترحت الحركة الصهيونيَّة في ذلك الوقت أن يقوم الأردن، أو شرق الأردن، بضمِّ الأجزاء العربيَّة من فلسطين. إلَّا أنَّ  الفلسطينيِّين رفضوا هذه الفكرة.

وتمَّ إنشاء لجنة الأمم المتَّحدة الخاصَّة بفلسطين (اليونسكو) لمحاولة إيجاد حلٍّ، لكنَّ أعضاءها كانوا من بلدانٍ ليس لديها سوى القليل من الاهتمام أو المعرفة بفلسطين. وقرَّرت الهيئات الممثلة للفلسطينيّين واللجنة العربيَّة العليا والجامعة العربيَّة مقاطعة اليونسكو ورفضت التعاون معها. وقد ترك هذا القرار فراغًا يشغله الدبلوماسيُّون والقادة الصهاينة الذين قدَّموا لليونسكو أفكارهم للحلّ. واقترحت القيادة الصهيونيَّة إقامة دولة يهوديَّة على ثمانين في المِئة (80%) من فلسطين، فخفَّضتها اللجنة إلى ستَّةٍ وخمسين في المئة (56%).

وكانت مصر والأردن مستعدَّتيَن لإضفاء الشرعيَّة على استيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينيَّة التي احتلَّتها عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا  (1948م) مقابل إبرام اتِّفاقيَّات  ثنائيَّة معها، وتمَّ التوقيع على ذلك لاحقًا عام 1979م مع مصر، وفي عام 1994م مع الأردن. وقد عاد هذا المبدأ ليكون معادلة السلام في الجهود الأميركيَّة بعد عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وستِّين ميلاديًّا (1967م)، حيث عاد مفهوم التقسيم إلى الظهور تحت مسمَّيات ومرجعيَّات مختلفة.

والمبدأ الثاني هو حرمان اللاجئين الفلسطينيِّين من حقِّهم في العودة واستبعادهم من طاولة المفاوضات. ولم تكن عمليَّة أوسلو سعيًا عادلًا ولا متوازنًا لتحقيق السلام، بل كانت بالأحرى صفقة عقدها شعبٌ مهزوم ومستعمَر. ونتيجة لذلك، اضطر الفلسطينيّون  إلى البحث عن حلول تتعارض مع مصالحهم وتعرِّض وجودهم ذاتَه للخطر.

وفي عام ألفين ميلاديًّا (2000م) لم تفشل عمليَّة أوسلو للسلام فقط بسبب تمسُّكِها بمبدأ التقسيم. وتضمَّن الاتِّفاق الأصليُّ وعدًا إسرائيليًّا بمناقشة القضايا الثلاث التي تؤرِّق الفلسطينيِّين؛ وهي مصير القدس وقضيَّة اللاجئين والمستوطنات اليهوديَّة. وخلافاً للوعد الذي تمَّ التعهُّد به في إعلان المبادئ في أوسلو؛ فإنَّ المرحلة الثانية من المفاوضات لم تر النور، وزعمت حكومة نتنياهو أنَّها لم تتمكَّن من بدء المرحلة الأكثر جوهريَّةً من المفاوضات بسبب السلوك السيِّئ للفلسطينيِّين.

حقُّ العودة

وتعرَّضت اتِّفاقيَّات أوسلو، التي هدفت إلى تقسيم فلسطين إلى الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة، لانتقادات بسبب استبعادها حقّ العودة للفلسطينيّين من مفاوضات السلام. ويعود ذلك إلى أنَّ الشعب الفلسطينيّ تعرَّض لحملة قمع وإهمال منذ بداية جهود السلام في فلسطين بعد الانتداب. ومنذ مؤتمر السلام الأوَّل حول فلسطين بعد عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (1948م)، تمَّ استبعاد مشكلة اللاجئين من أجندة السلام وفصلها عن مفهوم "الصراع الفلسطينيّ ". ولم تشارك إسرائيل في المؤتمر إلَّا لأنَّه كان شرطًا أساسًا للحصول على العضويَّة الكاملة في الأمم المتَّحدة، والذي اشترط أيضًا أن توقِّع إسرائيل على بروتوكول مايو، الذي تلتزم بموجبه بقرار الجمعيَّة العامَّة للأمم المتَّحدة رقم مِئة وأربعةٍ وتسعين (194).

وفي اتِّفاقيَّات أوسلو هَّمشت إسرائيل في المؤتمر قضيَّة اللاجئين والتي هي قلب الصراع الفلسطينيّ، وواقع يؤمن به جميع الفلسطينيِّين أينما كانوا، وكلّ المتعاطفين مع القضيَّة الفلسطينيَّة. وبدلاً من ذلك تمَّ إسناد القضيَّة إلى مجموعة متعدِّدة الأطراف قصيرة العمر، وطُلب منها التركيز على لاجِئي عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وستِّين ميلاديًّا (1967م)، وتحديدًا التركيز على الفلسطينيِّين الذين طردوا أو غادروا بعد حرب يونيو. وجرت المرحلة النهائيَّة من اتِّفاق السلام في كامب ديفيد وفي عام ألفين ميلاديًّا (2000م) ، وكانت بمثابة المحاولة الأخيرة لإحياء هذا الاتِّفاق.

ولم يحقِّق اللاجئون أيَّ تقدُّم خلال هذه الفترة. وفي كانون الثاني (يناير) عام ألفين ميلاديًّا (2000م)، قدَّمت حكومة باراك ورقة تحدِّد إطار المناقشة، بدعم من المفاوضين الأميركيِّين. ولقد شكل هذا إملاءً إسرائيليًّا واضحًا، وحتَّى انعقاد القمَّة في الصيف لم يكن الفلسطينيّون قد توصَّلوا إلى اقتراح مضادّ. وعندما انعقدت القمَّة لم تكن المفاوضات النهائيَّة إلَّا عبارة عن جهد إسرائيليٍّ أميركيٍّ مشترك لدفع الفلسطينيِّين إلى قبول تلك البطاقة.

وبعد عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وخمسةٍ وتِسعين ميلاديًّا (1995م)، أصبح تأثير اتِّفاقيَّات أوسلو واضحًا بشكلٍ مؤلم كعامل أدَّى إلى تدمير المجتمع الفلسطينيِّ بدلًا من إحلال السلام. وبعد اغتيال إسحق رابين وانتخاب بنيامين نتنياهو عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسِتَّةٍ وتِسعين ميلاديًّا (1996م) ، تحوَّلت اتِّفاقيَّات  أوسلو إلى خطاب سلام لا علاقة له بالواقع على الأرض. وفي الفترة ما بين عامي 1996م، و1999م، تمَّ بناء المزيد من المستوطنات وفرض المزيد من العقوبات الجماعيَّة على الفلسطينيِّين.

ولم تكن عمليَّة أوسلو عمليَّةَ سلامٍ، ولم تكن مشاركة الفلسطينيِّين فيها وإحجامُهم عن الاستمرار فيها علامةً على تعنُّتِهم وثقافتهم السياسيَّة العنيفة المزعومة؛ بل كانت استجابة طبيعيَّة للدبلوماسيَّة. ولقد عزَّزت وعمَّقت السيطرة الإسرائيليَّة على الأراضي المحتلَّة.

 


أكبر سجن على الأرض
أكبر سجن على الأرض
 إيلان پاپه
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00