في 8 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1987م، دهست شاحنةٌ أربعةً من سكَّان مخيَّم جباليا للاجئين في غزَّة، إيذانًا ببداية الانتفاضة الفلسطينيَّة الأولى. وكان الردُّ على هذه الحادثة غير مسبوق؛ إذ إنَّها المرَّة الأولى التي تشهد فيها فلسطينُ مشاركةً شعبية كبيرة ضدّ القمع وسلب الممتلكات. وكان الرد الإسرائيليُّ وحشيًا، حيث قُتل فلسطينيُّون ستَّةٌ بسبب مشاركتهم في إلقاء الحجارة، والمظاهرات، وإغلاق الطرق. وكانت استجابة المجتمع الدوليِّ غير مسبوقة، حيث تمَّ تصوير الفلسطينيِّين على أنَّهم "داود" الشجاع في مواجهة "جلعاد" الإسرائيليِّ الذي لا يرحم.
وتدخَّل مجلس الأمن التابع للأمم المتَّحدة عندما توسَّعت الإجراءاتُ الانتقاميَّة الإسرائيليّة لتشمل عمليَّات الطرد الجماعيِّ وغيرها من الوسائل القمعيَّة. وصدر القراران سِتّمِئةٍ وسبعةٍ، وستِّمِئةٍ وثمانيةٍ (607 و 608) عن مجلس الأمن، واللذان يلزمان إسرائيل بوقف هذه الممارسات، لكن دون نتيجة. واستمرَّت الانتفاضة نحوَ ستِّ أو سبعِ سنواتٍ، قُتل خلالها ألف فلسطينيٍّ على يد الإسرائيليِّين، واعتقل أكثر من مئةٍ وعشرين ألفًا، معظمهم دون سنِّ السادسة عشرة.
واندلعت الانتفاضة على يد نشطاء على الأرض، وتولَّى قيادتها هيئة جديدة تسمَّى القيادة الوطنيَّة الموحَّدة. وكانت هذه الهيئة تعمل بشكلٍ رئيسٍ من خلال توزيع المنشورات، وكان يشارك فيها ممثِّلون عن الفصائل الأربعة الرئيسة في منظَّمة التحرير الفلسطينيَّة في ذلك الوقت: فتح، والجبهة الشعبيَّة لتحرير فلسطين، والجبهة الديمقراطيَّة لتحرير فلسطين، وحزب الشعب الفلسطينيّ.
وردت إسرائيل على الانتفاضة السلميَّة بعنفٍ شديد، مستخدمةً القوَّة المفرطة لمنع المظاهرات العنيفة، وقُتِلَ العديد من المتظاهرين. ولم يكن المجتمع الدوليّ، بما في ذلك الدول التي تدعم إسرائيل عادةَ، مقتنعًا في البداية بهذا التعبير الملطّف الجديد؛ حيث أدانت وزارة الخارجيَّة الأميركيَّة استخدام القوَّة المفرطة. وتصاعدت وتيرة الانتفاضة الإسرائيليّة في الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة مع تزايد وعي المجتمع الدوليِّ بالضرر الجسيم الذي يتعرَّض له الأطفال. وأدان مجلس الأمن التابع للأمم المتَّحدة إسرائيل لانتهاكها اتفاقيَّة جنيف، لكن عدم فعالية التوبيخ الدوليّ مكَّن الاحتلال من الإفلات من العقاب الذي سعى إليه لقمع الانتفاضة. وتُذكِّرنا الإجراءات الانتقاميَّة الإسرائيليَّة بأساليب الاعتقال والاحتجاز في العصور الوسطى، بما في ذلك القسوة الجسديَّة على المعتقلين قبل وأثناء الاعتقال، وخاصَّة الأطفال والشباب.
وتراجعت ردود الفعل الدوليَّة خلال السنوات التالية؛ حيث عُدَّ البادئُ بالانتفاضة هو قوَّة سياسيَّة جديدة، هي حماس. وقد وفَّرت كراهية الإسلام والصراع بين القوى الغربيَّة والجماعات الإسلاميَّة العالميَّة لإسرائيل حصانةً أقوى، طالما أنَّ عدوَّها يُعَدُّ منظَّمةً إسلاميَّة متطرِّفة. ولقد عقَّدت حماس حياةَ الإسرائيليين وساعدتهم على تصنيف النضال الفلسطينيّ كجزء من قوَّة إسلاميةٍ مناهضةٍ للغرب ومنخرطةٍ في صراع الحضارات.
ولعبت إسرائيل دورًا مهمًّا في تأسيسها وظهورها؛ إذ تأسَّست حركة حماس رسميًّا عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وثمانين ميلاديًّا (1987م) على يد ثلَّةٍ من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزَّة، وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين. وقد وُلد ياسين عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثمانيةٍ وأربعين ميلاديًّا (1948م) وكان منخرطًا بعمق في النضال السياسيّ من أجل تحرير فلسطين.
إنَّ الأيديولوجية الوطنيَّة لحماس، إلى جانب الأجندة السياسيّة الإسلاميّة، قادتها إلى تبنِّي سياسات ضدَّ الدولة اليهوديَّة وليس فقط ضدَّ الاحتلال. واتَّسمت اللغة التي استخدمتها الحركة في ذلك الوقت بالعداء الشديد تُجاه اليهود وإسرائيل.
وبحلول نهاية عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثمانيةٍ وتسعين ميلاديًّا (1998م)، اتَّسع الانتقامُ الإسرائيليُّ ليشمل الفلسطينيِّين، وليس فقط أولئك الذين شاركوا في الانتفاضة. وعُدَّت هذه الإجراءات الانتقاميَّة المألوفة جزءًا من المعاملة القاسية والعقوبات القاسية التي تمارَس عادةً في عالم السجون الحديث.
وينصُّ القانونُ الدوليُّ، وكذلك القانونُ المدنيُّ والجنائيُّ في جميع أنحاء العالم بوضوح على أنَّ أيَّ شكل من أشكال العقاب الجماعيّ غير قانونيّ. وقد رفضت المادَّة خمسون (50) من اتفاقيَّة لاهاي عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ ميلاديًّا (1907م)، والمادَّة ثلاثٌ وثلاثون (33) من اتفاقيَّة جنيف عام ألفٍ وتِسعِمِئة وتسعةٍ وأربعين ميلاديًّا (1949م) هذه الممارسات، لكنَّ اعتبارَ اتفاقيَّة لاهاي مصدرًا للتشريع في القانون الإسرائيليِّ لم يكن له أيُّ تأثير على السياسات الانتقاميَّة التي تمارسها إسرائيل.
روزنامة الاحتلال
كانت اتفاقيَّات أوسلو، وهي اتفاقيَّة إقليميَّة تمَّ توقيعها في عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وستِّين ميلاديًّا (1967م)، عبارة عن حظر تجوُّل مؤقَّت فرضه الجيش الإسرائيليُّ على البلدات والقرى الفلسطينيَّة في جميع أنحاء الضفَّة الغربيَّة وقطاع غزَّة. ومع ذلك، فقد فشلت في الوفاء بوعودها، كما يتَّضح من الظروف القاسية التي واجهها الفلسطينيُّون خلال فترة حظر التجوُّل عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثلاثةٍ وتسعين ميلاديًّا (1993م).
وكانت إحدى العمليَّات الأكثر عنفًا التي نفَّذتها إحدى الفصائل هي فترة الأيَّام الثلاثة التي أعقبت عيد استقلال إسرائيل في نيسان/أبريل 1993م؛ ففي هذه الفترة اقتحم الجنود الإسرائيليّون منازل الفلسطينيِّين، ممَّا تسبَّب في تعرُّضهم للإيذاء الجسديِّ والنفسيِّ. وعلى سبيل المثال؛ روى محمَّدُ أحمد الأسطل، وهو رجل فلسطينيٌّ يبلغ من العمر أربعةً وعشرين عامًا، أنَّه تعرَّض للضرب على أيدي الجنود الإسرائيليّين، والإجبار على تفريغ الخزَّانات. وأيقظ الجنود الإسرائيليّون رجلًا آخر، يُدعى حسن عبد سيّدي أبو لبدة، وضربوه وألقوا به في سيارتهم.
كما تعرَّضت فاطمةُ حسن طبشه سفيان، وهي أمٌّ لأربعة أطفال تبلغ من العمر واحدًا وستين عامًا، للضرب على أيدي الجنود الإسرائيليِّين. وتمَّ إيقاظُ ابنها سعد، وركلُه وضربُه حتَّى بدأ يبصق دمًا . وتعرَّض شقيقه إبراهيم للضرب المبرِّح. وأفاد باحث من بتسلم أنَّ شهادة فاطمة تمَّ تسجيلها لفترة طويلة بعد الحادثة، ووجدت آثار نزيف تحت الجلد في ظهرها.
وتكرَّرت اتفاقيَّة أوسلو في أبريل من كلِّ عام منذ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وثمانين ميلاديًّا (1987م) حتَّى عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وثلاثةٍ وتسعين ميلاديًّا (1993م)، وحرم مئةٌ وستَّةَ عشرَ ألفَ فلسطينيٍّ من مصدر رزقهم، وقسَّم الأراضي المحتلَّة إلى أربع مناطق منفصلة، وأغلق جميع مداخل القدس. ولم يقتصر هذا العقاب الجماعيّ على فترة ثلاثةِ الأيَّام؛ بل كان بمثابة تأكيد رسميٍّ للسياسة المتَّبَعة منذ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وسبعةٍ وثمانين ميلاديًّا (1987م).
وفي الختام، كانت اتفاقيَّات أوسلو بمثابة إجراء مؤقَّت لحماية الفلسطينيّين أثناء الاحتلال، لكنَّها فشلت في الوفاء بوعودها. إنَّ الظروف الوحشيَّة التي واجهها الفلسطينيّون خلال هذه الفترة تسلِّط الضوء على النضال المستمرِّ من أجل الحرِّيَّة والأمن في المنطقة.