الرحيل

 

عليٌّ، بين الترحال والاستقرار

سافر عليٌّ إلى بالنسية سعيًا للقاء عمَّته التي أخبروه أنَّها قد تزوَّجت هناك، وعندما وصل إلى بالنسية وصلته أخبار أنَّ عمَّته غادرت بالنسية منذ زمن بعيد وهي الآن تعيش في قرية الجعفريَّة، فذهب عليٌّ إلى الجعفريّة مسحورًا بطبيعتها ومبانيها، وعندما وصل كان يسأل عن اسم عبد العزيز الطاهر زوج عمَّته، ولكنَّ أحدًا لم يعرف هذا الشخص، فأرشدوه أن يذهب إلى شيخ القرية عمر الشاطبيّ، والذي بدوره حكى له أنَّ عمَّته قد كانت في الجعفريَّة فعلًا ولكنَّها رحلت إلى فاس، فقرَّر عليٌّ متابعة الترحال حتَّى يجد مستقرًّا له، فبلاد الله واسعة، ولكنَّ الشيخ عمر الشاطبيّ أقنعه بأن يبقى معهم في القرية، وكلَّفه بمهمَّة تعليم أبناء القرية القراءة والكتابة، وقد لُقِّب عليٌّ في هذه القرية بالغرناطيّ وذلك بسبب لهجته الواضحة المختلفة عن لهجتهم في الجعفريّة.

ويمضي عليٌّ سنينَ طويلة في الجعفريَّة يعلِّم الأطفال ويشهد كيف يكبرون أمامه يومًا بعد يوم، ويرافق شيخ الجعفرية الشاطبيّ ويساعده في حلّ مختلف القضايا والمشاكل، وقد تدخَّل عليٌّ في مشكلة خلاف حدثت بين أولاد نعمان وأولاد القيسيّ، وكانت مشكلة خطيرة كادت تتطوَّر لتصل إلى الضرب وحتَّى القتل، فقدم الشاطبيّ وعليّ الغرناطيّ الكثير من المصالحات والحلول حتَّى هدأ الطرفان، ووقَّعوا هدنة جديدة بين العائلتين، وخلال هذه الفترة كان القشتاليّون يدخلون الجعفريّة ليعيدوا عليهم القوانين المتعلِّقة بمنع التحدُّث باللغة العربيّة وعدم التصرُّف وفق العادات الإسلاميّة.

تدخل الإنجليز والفرنسيِّين

خرج أسطول إسبانيا لملاقاة الأسطول الإنجليزيّ الذي بدأ محاربتها من البحر، وقد فرح الأهالي كثيرًا لأنَّ هذه المعركة البحريّة قد كسرت شوكة الإسبان، وكانوا متفائلين بأنَّ وصول الإنجليز سيحرّرهم من احتلال الإسبان، ولكنَّ أملهم هذا خمد عندما وجدوا أنَّ مساعي الإنجليز لا تهدف إلى تحريرهم؛ وإنَّما هدفها تمديد نفوذهم.

وبعدها بفترة غزا الفرنسيُّون الأراغون، وهي منطقة تقع في شمال شرق إسبانيا، وقرَّر أهل الجعفريّة تشكيل جيش والمشاركة في الغزو ضدّ إسبانيا مع الفرنسيِّين، وانضم عليٌّ بلا تردُّد إلى الجيش لأنَّه بلا أهل يخافون عليه أو يخاف عليهم، وبعد عدَّة معارك وعمليَّات نفَّذها الجيش لم يتحسَّن حال البلاد وفشلت خطَّة التعاون مع الفرنسيِّين، وقلق أهل الجعفريّة كثيرًا لأنَّهم خافوا أن يتعاون الفرنسيُّون مع إسبانيا.

ويصرُّ الشاطبيّ على الصبر والتفاؤل مهما حدث، ويشجع أهل الجعفريَّة على الصمود وعدم الاستسلام لمطالب الاحتلال، ولكن في ليل ذلك اليوم، يستيقظ عليٌّ على شخص يطرق باب منزله بخوف ويخبره أنَّ عمر الشاطبيّ يحتضر ويريد رؤيته.

وتوفِّي الشيخ عمر الشاطبيّ دون أن يسمع أخبارًا مفرحة، وبعد سنة تقريبًا، تسوء أحوال البلاد أكثر، ويصدر قرار حول ترحيل العرب من الجعفريّة لأنَّه لا شيءَ فيها لهم، فأمَّا الرجال فسيعملون مدى الحياة في السفن، وأمَّا الصغار فسيأخذونهم لينشئوا نشأة صالحة في الأسر الإسبانيّة.

ما قبل الرحيل

ويستعدُّ عليٌّ لمغادرة الجعفريَّة، ليجد نفسه يغادر وطنه من جديد، ويفتِّش بين الأوراق والمفاتيح الموجودة في بيته، يتذكَّر مريمة وحيّ البيازين، وحياته القديمة وطفولته، ويشعر بالضياع بسبب ترحاله من مكان إلى آخر دون وطن.

وبسبب القوانين الصارمة والاحتلال الظالم الذي عذَّب العرب لسنين طويلة، استسلم أهل الجعفريَّة لقرار الترحيل، رغم الكمد والحقد وحقّ القتال؛ استسلموا لأنَّ ما باليد من حيلة، وها هم يحملون حوائجهم ويستعدّون للمغادرة ويشعرون بالعجز والأسى، ويتفادون النظر إلى زيتونهم ونخيلهم لكيلا يقتلهم الحنين.

 وكان عمر عليٌّ قد أصبح ستَّة وخمسين عامًا، وسار مع شعبه وهو يحمل بيده صندوقًا صنعه عندما كان طفلًا يعمل في ورشة الخشب، وهو يتأمَّل تفاصيل الصندوق والطيور المحفورة عليه، ثمَّ ينظر للبحر الواسع أمامه، ويتذكَّر قبر مريمة وكيف ماتت في العراء، وقد تذكَّر عليٌّ صندوق مريمة الكبير المدفون في حديقتها، والذي يحمل في قلبه الكتب التي أخفاها جدّ جدّه أبو جعفر يوم أحرقت الكتب في غرناطة لأوَّل مرَّة منذ مئة عام، وفجأة، يتوقَّف عليٌّ، ويدير ظهره للبحر، ويسير عكس الجميع وعيناه تقصدان قبر مريمة، فلم يتبعه أحد، ولم يهتمّ به أحد، ورفض عليٌّ الرحيل، وتابع مسيرته وحيدًا، عائدًا إلى بيته الدافئ في حيّ البيازين.


ثلاثية غرناطة
ثلاثية غرناطة
رضوى عاشور
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00