سنوات تمرّ بسرعة، وحياة لا ترحم
ويستقبل حسن في منزله أخوين من بالنسية، اسمهما عمر وعبد الكريم، وكان الحديث بخصوص إدارة الخان وتطويره، وفي ختام الحديث، يزوّج حسن ثلاثًا من بناته لابن عمر وابني عبد الكريم، وتحزن مريمة وتغضب من حسن لأنَّه زوَّج بناته لشباب لم يلتقوا بهم من قبل.
ثمّ تهدأ مريمة عندما تتعرّف على أزواج بناتها وتراهم شبابًا خلوقين مثل أبويهم، وفي هذه الفترة كانت سليمة قد أصبحت متقدّمة في مجال طبّ الأعشاب ويقصدها الناس لتعالج أمراضهم، وأمَّا سعد، فقد كان يعمل كعادته في تهريب المؤن من مكان إلى آخر، وكانت الأوضاع تسوء يومًا بعد يوم في البلاد.
وفي إحدى مهمَّات سعد، وكان يهرّب البارود متنقّلًا على دابّة، ويمرّ خلال ذلك في قرية بسيطة، وكان كلّ من سأله أن يشتري منه القمح يتحجّج بأنّها لشخص محدّد دفع له ثمنها وهو الآن يوصلها إليه، ولكن فقر الناس وجوعهم جعلهم يعتدون على سعد ليسرقوا منه القمح، وفوجئ الجميع بأنّ ما معه كان بارودًا، ويحاول سعد الهرب ويصل إلى قرية أخرى كانت أحوالها غاية في السوء، وكان أهل هذه القرية يهربون خارجها وسعد تائه بينهم، وبعدها أراد سعد العودة إلى سليمة وغرناطة، ولكنَّه تعرَّض للاعتقال من قبل القشتاليّين، واقتيد إلى السجن.
وفي السجن، تعرَّض سعد للتعذيب بأقسى الطرق وأبشعها، وكانت أساليب التعذيب هذه تضعف سعدًا وتكاد تقتله، وشمل التعذيب ضخ الماء إلى الجوف حتَّى الاختناق، وحرق باطن الأقدام بالأسياخ الحامية، والتعذيب بالآلة الخشبيّة التي تضغط العظام حتّى تحطّمها وتجعله يصرخ من الألم.
وغدت ذكريات سعد أكثر قسوة وصار أشدّ حنانًا من ذي قبل، واشتاق إلى غرناطة كثيرًا، وغرق في آلام الصبا، وكان رفاقه في السجن يخفِّفون عنه وحدته وآلامه بطريقة أو بأخرى، ولكنّه ظلّ متكتِّمًا على أسرار حياته حتَّى يكون حكمه مخفَّفًا.
وتسوء الأمور في بالنسية، ويتعرّض فيها العرب لأقسى أساليب التعذيب والتهجير، وتبدأ مريمة الشكوى وتلوم حسنًا لأنَّه زوَّج بناتها لشباب من بالنسية وها هي لا تعرف عن حالهم شيئًا، وتحاول مريمة أن تحصل على أخبار عن بناتها، وكلّ ما وصلها أنَّهنَّ بخير، وصار لديهنَّ الآن ستَّة أحفاد، ولكنَّها كانت رسالة قصيرة مقتضبة لم تخفّف على مريمة خوفها ولوعتها.
وتعود القوانين الصارمة التي تمنع تداول الكتب العربيّة واقتناءها، الأمر الذي دفع سليمة إلى إيجاد طريقة سرِّيّة لاسترجاع الكتب من بيت عين الدمع، وإخفائها في منزل البيازين، حيث وضعتها في صندوق مريمة في غرفتها هي وحسن، دون أن يعرف بهما أحد.
نعيم في العالم الجديد
كان نعيم يساعد القسّ ميجيل في جمع المعلومات عن العالم الجديد، إذ كان القسّ يجهِّز كتابًا يتحدَّث فيه عن كلّ ما رآه وتعامل معه في هذا المكان، وقد رأى نعيم أفظع عمليّات الإبادة التي كان القشتاليّون يمارسونها بحقّ السكّان الأصليّين، فمثلًا؛ شهد نعيم كيف خطف القشتاليّون رضيعًا من حضن أمّه، ورموه حيًّا للكلاب الجائعة التي نهشته أمام ناظريها، وبينما هي تبكي وتنتحب، أطلق القشتاليّون عليها الرصاص ضاحكين.
وكان القسّ ميجيل يخبر نعيمًا عن مدى أسفه على المصير الذي آلت إليه رحلات كريستوبال كولون، وأنَّه لا يجد أسبابًا لهذه الشراسة غير المفهومة التي يطبقها القشتاليّون على السكَّان الأصليّين للعالم الجديد.
وقد اعتاد نعيم على التجوال بين الأشجار دون مرافقة القسّ؛ ليتعرّف على الطبيعة الخلَّابة التي زيَّنت العالم الجديد، وكانت رحلاته هذه سببًا في تغيير حياته كلِّها، فقد التقى بصبيّة جميلة من السكان الأصليّين، وسحر بجمالها، وكان دائمًا ما يتردّد على نبع محدّد حيث اتفقا على اللقاء. كان اسم هذه الصبية (مايا)، وقد علّمته لغتها وتبادل معها القصص والخبرات، ومع الوقت، لم يتحمّل نعيم هذه السرِّيّة، وقرَّر أن يتزوَّج مايا.
استأذن نعيم القسّ في أن يقوّي علاقته مع السكان بحجّة جمع المعلومات منهم والتعرّف على حياتهم أكثر، فأخبره أنّ عليه أن يزورهم ويتواصل معهم ولكنّه يحتاج للحماية لكيلا يؤذيه أحد القشتاليّين ويظنّه يتعاون مع السكّان الأصليّين، وقد وافق القسّ على هذه الخطوة.
وقد أخبر نعيم مايا أنّه يريد أن يزور أباها ليتعرّف عليه ويطلب منه يدها للزواج، فأخبرته مايا أنّها تعيش هنا بعد وفاة زوجها، وأنّ أهلها يعيشون في منطقة بعيدة، وحتَّى تذهب إليهم فإنَّها تحتاج حصانًا وسفرًا يطول لعدّة أسابيع، وقد يتعرّض لهم القشتاليّون خلال الرحلة ويسبِّبون المشاكل.
ويصرّ نعيم على قرار الزواج، ولكنَّه لم يرغب بالتخلِّي عن القسّ الذي كان كريمًا معه ولم يعامله بسوء؛ لذا، قام نعيم بترتيب غرفة القسّ، وأحضر له طعامًا يكفيه لعدّة أيّام، ثمَّ سرق حصانه دون أن يراه أحد وغادر مع مايا إلى مكان سكن أهلها، متخلِّيًا بذلك عن حياة العمل مع القشتاليّين.
هدوء في منزل حسن
خرجت أمُّ إبراهيم مع أخوي مريمة من السجن، وفرض عليهم القشتاليّون غرامة كبيرة، وبسبب عجزهم عن دفعها، صادروا بيتهم، وهنا تقترح مريمة أن يعيشوا معهم في المنزل، فيقبل حسن أن تعيش أمّ إبراهيم معهم، ولكنّه رفض مجيء أخويها؛ وذلك لأنَّهما خرجا توًّا من السجن وهو يريد إبعاد المشاكل عن المنزل قدر المستطاع.
وعلى الرغم من سوء أحوال البيازين إلَّا أنَّ حسن كان راضيًا عن حال منزله، فمقارنة ببقيَّة العائلات، كان هو وعائلته يعيشون حياة جيّدة، فهو يدير خانًا كبيرًا، ولديه ولده الصغير (هشام) الذي يطمح أن يزوّجه بعائشة ابنة سليمة عندما يكبران، وذلك على الرغم من قوانين القشتاليّين التي تحرّم زواج الأقارب.
وكانت سليمة في تلك الفترة قد ذاع صيتها بأنّها خبيرة في علاج الأمراض من خلال طبّ الأعشاب، وصار الناس يأتون إليها من كلّ صوب لتعالجهم وتشفي آلامهم.
عودة سعد وسماع الأخبار الحزينة
ويخرج سعد من سجنه بعد أن تعرّض للكثير من أساليب التعذيب القاسية، حتَّى أصبح عاجزًا لا يستطيع السير دون عكَّازين يحملهما أينما ذهب، وكانت حاله المتعبة هذه، سببًا في منعه من العودة للجهاد ضدّ القشتاليّين، فعاد إلى غرناطة يتوق للقاء سليمة والعائلة.
وعندما طرق الباب، استقبلته مريمة بحفاوة، على الرغم من الحزن الظاهر على وجهها، وقبل دخوله، اقتربت طفلة صغيرة من الباب، وأخبرته مريمة أنَّ هذه هي ابنته (عائشة)، وكانت عائشة بعمر الثلاث سنوات، وقد رأى سعد في عينيها نظرات أخته نفيسة التي فقدها في بالنسية منذ كان طفلًا.
ودخل سعد المنزل وعيناه تبحثان عن زوجته، لتأتيه الأخبار الحزينة من مريمة؛ فقد داهم القشتاليّون بيت حسن، وفتَّشوا في حوائج سليمة وأدويتها وأعشابها، ثمَّ حملوها في قفَّة يخشون لمسها، وأخذوها من المنزل مصادرين كلّ ما لديها من أعشاب وقدور وكتب.
خاف سعد كثيرًا بعد سماع الأخبار؛ فإنَّ حمل سليمة في قفَّة لا يبشّر بالخير، وقد تكون تهمتها خطيرة جدًّا، ويخبر حسن مريمة عن رغبته بإخبار سعد أنّ وجوده معهم خطر كبير وأنَّ عليه المغادرة، ولكنّها ترفض وتقسم على المصحف أنّه إن أخبر سعدًا بهذا فستغادر المنزل هي أيضًا.
تتعرّف مريمة بحنكتها على امرأة يعمل زوجها في الديوان، وتستدرجها في الكلام علّها تحصل منها على معلومات عن التهمة الموجهة إلى سليمة، وبعد بضعة أيّام، علمت مريمة أنَّ سليمة متَّهمة بممارسة السحر، وأنَّها الآن تتعرَّض لأقسى أنواع التعذيب لتعترف بأعمال السحر والشعوذة التي تمارسها وتؤذي بها الناس.
مصير سليمة
كانت سليمة تخضع لجلسات تحقيق قاسية في السجن، وكان رجال الديوان يبحثون عن أبسط الأسباب التي تثبت ممارستها للسحر، اتَّهموها بأنَّها قتلت امرأة حبلى بمجرّد لمسها، وبرّرت سليمة ذلك بأنَّ الجنين كان ميِّتًا وأنَّها فحصت بطن المرأة لتعرف حال جنينها، وأخبرتها أنَّه ميِّت، وقد ماتت المرأة بسبب تسمّمها بالجنين الميّت في أحشائها.
وقد اتَّهموها بقتل طفل قشتاليّ في منزله، وأجابتهم بأنَّها رافقت مرّة امرأة قشتاليّة إلى بيتها لتفحص ابنها المريض، وقد وجدته سليمة يحتضر ويعاني من نزيف في أمعائه، ولم يكن بيدها حيلة لتنقذه، ولكن كلّ هذه التبريرات لم تكن كافية لينفي القشتاليّون ممارستها للسحر.
كانت سليمة تجبر على الإمساك بقضبان حامية لتقرّ بأعمالها الشرّيرة، وكان ممنوعًا عليها لمس أيّ شخص لكيلا تلعنه وتسحره، واتَّهموها بعبادة الشيطان، وبأنَّها كانت تعاشر تيسًا حتى أنجبت منه طفلة في غياب زوجها، وكادت سليمة تجنّ وهي تسمع هذه الأحكام غير المنطقيّة، وبقيت في السجن تتعرّض للإهانة والإذلال حتَّى صدر الحكم بحقِّها، وهو أن تحرق حيَّة؛ لأنَّ تهمتها لا توبة منها.
وسارت سليمة مقيّدة تقاوم آلام يديها وقدميها جرّاء التعذيب، ترفض النظر إلى وجوه الناس في الحشود المراقبة؛ كانت تخشى أن تنظر فترى وجه سعد، وفكّرت سليمة بابنتها، وبالناس الذين عالجتهم فشفوا بإذن الله، وهل سيخافون ويشفقون عليها؟ وهل تكون ردّة فعلهم عند حرقها مماثلةً لتصرّف جدّها أبي جعفر عندما رأى الكتب تحرق أمامه للمرّة الأولى؟
وفي ساحة البيازين، طبّق القشتاليّون الحكم، وأضرمت النار في الأخشاب تحت قدمي سليمة، ولم يحتمل سعد أن يرى محبوبته تحرق أمامه، فمات كمدًا من حزنه وخوفه.