ترحيل عرب قرطبة، وأحزانٌ تعمُّ حياة عليٍّ
بلغ عليٌّ من العمر أربعة عشر عامًا، وبدأ العمل لدى جارهم إرناندو بن عامر والد خوسيه ووردة، في ورشة صناعة الأخشاب، وكان عليٌّ قد بدأ يعجب بوردة وجمالها، أمَّا أحوال البيازين فلم تكن تتحسَّن، وراح الظلم والاستبداد يزدادان سوءًا كلَّ عام.
وصار عليٌّ يرى أسرى العرب يباعون على خشبة المزاد في ساحة باب الرملة، عبيدًا وعمَّالًا، وعندما رأى عليٌّ أسراهم يباعون بهذه المهانة والإذلال، انتحب وبكى، وتعبت مريمة وعجزت وهي تنتظر الأخبار المبشِّرة، حتَّى أرهقها العمر وأصبحت عاجزة عن السير.
وصدر قرار مفاجئ يقتضي بترحيل رجال قرطبة الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة عشر عامًا، وستِّين عامًا، وترحيل كلّ من لا يملك تصريحًا لدخول قرطبة، وكان هذا القرار قرارًا قاتلًا وجارحًا جعل الجميع يشعرون أنَّهم بلا وطن وبلا انتماء، وأنَّهم وحيدون لا يعرفون وجهة خارج موطنهم.
وبكت مريمة جدّة عليّ وبكى جميع أهل البيازين، وجمعوا ما استطاعوا جمعه وارتحلوا، وكان طريق السفر طويلًا، فكانوا يرتاحون حينًا ويتابعون السير حينًا، وكانت مريمة لا تكفّ عن البكاء على حالها والحال التي وصلت إليها البيازين، وقد حاول عليٌّ رفع معنويَّاتها وأمضى السفر يحملها على ظهره بسبب عجزها، وأخبرهم القشتاليّون أنَّهم قد رحَّلوهم خارج غرناطة لأجل مصلحتهم، وأنَّ موضوع الترحيل مؤقَّت وأنَّهم سيعيدونهم بعد عام الى غرناطة، ولكن هذه الوعود لم تكن تعطيهم الأمل ولم يكونوا واثقين بصدقها.
وفي إحدى الليالي وبينما كان عليٌّ وجدَّته يرتاحان من عناء السفر، بكت مريمة كثيرًا، بكت وبكت ثمَّ وضعت رأسها على كتف عليٍّ وأغمضت عينيها للأبد، فبكاها عليٌّ، ودفنها وهو يتمنَّى لو أنَّه يستطيع دفنها في ظروف أفضل، وأن تأخذ حقَّها في الحصول على جنازة مشرِّفة، وقد ماتت مريمة في العراء ودفنها عليٌّ بيديه في التراب.
ولم يتحمَّل عليٌّ مهانة الترحيل، ولم يعد يقبل أن يسافر ويرتحل خارج غرناطة، ولذا وفي إحدى المرَّات تشجَّع عليٌّ وضرب الحارس الذي يحرس قافلة العرب المرحَّلين؛ ضربه بالخنجر وسرق حصانه وهرب، وكانت تلك هي المرّة الأولى التي يعتدي فيها عليٌّ على أحد.
وطفق عليٌّ يمعن في الهرب بلا هدف، فجاع وخاف وعانى كثيرًا، وتذكَّر والده وتذكَّر الزيارات الخفيَّة التي لم يكن يعرفه فيها، واستغرب كيف كان والده يعيش في هذه الجبال المقفرة الخالية من الحياة، وأراد عليٌّ أن يعود إلى منزله، ولكنَّ القوانين والظروف لم تشجِّعه على ذلك، لذا راح يبحث عن مأوًى مؤقَّت حتى يحين وقت العودة.
هل يعود عليٌّ إلى غرناطة؟
وبعد بضعة أعوام أمضاها عليٌّ يعيش مع قطَّاع الطرق في الجبال، قرَّر أن يعود إلى بيته، ووصل عليٌّ إلى حدود غرناطة فكان المشهد الذي رآه من قمة الجبل ساحرًا حيث أبصر عمائر غرناطة ومبانيها وسماءها الخلَّابة، ووصل إلى قرية مهجورة تطلّ على المنطقة فوجد فيها منزلًا مهجورًا، فنظَّفه واهتمَّ به، وقد كان عليٌّ مغرمًا بهذا المنزل لأنَّه وجد فيه الأجواء العائليَّة وآثار العادات العربيَّة، وشعر عليٌّ بأنَّه يعيش بين ذكريات بيته في حيِّ البيازين.
وتوجَّه عليٌّ إلى حيِّه مستكشفًا المعالم، والتقى هناك بخوسيه صديق طفولته القديم، وكان عليٌّ يستغرب النفوذ الذي وصل إليه خوسيه، فقد ورث صناعة الخشب عن أبيه، وتزوَّجت أخته وردة من قشتاليّ ذي نفوذ واسع، ولذا كان لخوسيه نصيب من هذا النفوذ.
وشعر عليٌّ بالندم على عودته؛ لأنَّ غرناطة لم تعد كما كان يعرفها، وبدأ خوسيه يؤمِّن له وظيفة جيِّدة في ورشة الخشب، إضافة إلى مسكن للعيش، ثمَّ وعده بأنَّه سيعيد إليه منزله في البيازين، ولكن في المقابل، كان على عليٍّ أن يوقِّع على صكِّ بيع بيت الدمع لخوسيه، أيّ أنَّ خوسيه سيأخذ بيت الدمع وبالمقابل سيعيد بيت البيازين إلى عليّ، فوافق عليٌّ مُكرهًا لأنَّه بعد الترحيل لم يعد يملك أيًّا من البيتين، فإن تمكَّن من استعادة أحدهما فسيكون ذلك شيئًا ممتازًا.
خوسيه، من صديقٍ إلى عدوّ
كره عليٌّ خوسيه بشدّة لحقده وجشعه واستملاكه المنازل، وقبْل أن يقبل توقيع العقد، اشترط أن يأخذ كلّ الكتب الموجودة في قبو منزل بيت عين الدمع، وتمَّت الخطة وفق الاتِّفاق، ولكن في مساء ذلك اليوم، غضب عليٌّ ندمًا على توقيعه وتعاونه مع خوسيه، ولكن ما باليد حيلة، وعاد عليٌّ إلى بيت البيازين متفائلًا بالبداية من جديد.
وانتشرت في الحيّ أخبار عن مطالب بإرجاع العرب إلى دورهم وبيوتهم في غرناطة، وقد نتج عن هذه الحركة فوضى وارتباك في الحيّ كلِّه، ولذلك اعتقل رجال الشرطة مجموعة من الأشخاص المشكوك بهم وكان عليٌّ من بينهم، ووجَّهوا إليه مجموعة أسئلة عن تعامله مع المجاهدين في الجبال وعن قطَّاع الطرق، وأجابهم عليٌّ بثقة لكونه يمتلك وثائق زوَّرها له خوسيه وهي تثبت أنَّه يعيش في بيته في حيّ البيازين ولم يرتحل من غرناطة من قبل، وتطرق رجال الشرطة في أسئلتهم عن أهل عليّ والمشاكل التي افتعلوها، وأخبروه أنَّ والده حيٌّ يرزق وهو يعمل الآن قاطع طرق يهدِّد أمن الدولة، وأنَّ عمَّته التي تعيش في بالنسية وزوجها يساعدان الثوَّار.
وقد كانت إجابات عليٍّ بريئة وصادقة، فأخبرهم أنَّه لا يعرف أباه ولم يلتقِ به من قبل وأنَّ عمَّته قد سافرت إلى بالنسية قبل ولادته أصلًا، لذا لم تثبت التهمة على عليٍّ بأنَّه مشارك في زعزعة أمن الدولة، ولكنَّه سيسجن لفترة قصيرة لأجل الاحتياط فقط، ولكنَّ هذه الفترة القصيرة تحوَّلت إلى عدَّة أشهر مملَّة كاد عليٌّ يجنُّ فيها منتظرًا خروجه.
وقد خرج عليٌّ من السجن بعد ثلاث سنوات وخمسة أشهر وأربعة أيَّام، وفوجئ عندما أدرك أنَّ خوسيه قد استولى على بيت البيازين، ثمَّ طلب خوسيه من عليٍّ العمل في مكان غير ورشة الخشب ليبعد عن نفسه الشبهات، فغضب عليٌّ من تصرُّف خوسيه غضبًا شديدًا، ومن شدَّة حنقه تربَّص في الشارع مختبئًا، وعندما مرَّ خوسيه بالقرب منه أمسكه وهدَّده بالسكين أنَّه سيقتله إن لم يعد إليه بيت البيازين، وقد استسلم خوسيه لمطالب عليّ خوفًا من غضبه وأذيَّته.
لكن خوسيه لم يقبل بالخسارة التي تعرَّض لها، لذا فقد دبَّر مكيدة خبيثة، ووصلت أخبارٌ إلى عليٍّ بأنَّه متَّهم بقضايا خطيرة لا مهرب منها، وأنَّ رجال الشرطة سيأتون ويقبضون عليه في أقرب وقت، واضطرّ عليٌّ أن يهرب دون أنْ يودِّع أحدًا من أهله، ولكن قبل مغادرته، دخل عليٌّ منزله وتوجَّه إلى غرفة مريمة، ثمَّ أخذ صندوق الكتب إلى الحديقة، وحفر حفرة كبيرة ودفن الصندوق فيها وأخفاه بمهارة وحذر.