كيف أصبح منزل حسن؟
وبعد سنين طويلة من الحادثة المأساويّة التي ذهبت ضحيّتها سليمة، تعيش مريمة اليوم مع زوجها المسنّ حسن، وحفيدها الصغير عليّ، وكان عليّ ابن هشام وعائشة، وقد غادر أبوه المنزل ليجاهد ضدّ القشتاليّين منذ أن كان عليّ رضيعًا، أمَّا عائشة، فقد رحلت في سنٍّ مبكرٍة تاركة الطفل عليًّا في رعاية مريمة؛ لتربّيه كما ربَّت أمّه بعد وفاة والدتها سليمة.
وفي أحد الأيّام، جاء شيخ كبير غريب المظهر إلى منزل مريمة، وعرَّف نفسه بأنَّه نعيم، ولولا ذكرياته التي رواها لما صدَّقت مريمة أنَّه نعيم، فقد كان شعره طويلًا، ويرتدي ثيابًا غريبة أحضرها من العالم الجديد، وكان يدخِّن غليونًا بكثرة، وروى لهم باختصار عن عائلته التي تركها وراءه دون أن يذكر أيَّ تفاصيل، وقال إنَّه أنجب ثلاثة أطفال، أسماؤهم (بدر وهلال وقمر).
أمَّا عن تفاصيل ما حدث معه في العالم الجديد، فقد احتفظ نعيم بحكايتها لنفسه، وقد كان يعيش سعيدًا مع زوجته وأولاده بسلام، وذات ليلة، داهم القشتاليّون قريته مرتكبين مجزرة بحقّ سكَّانها، وقتلوا أهله وأسرته الصغيرة فبكاهم نعيم كثيرًا، وكان يتضرَّع إلى الله أن يُحيي زوجته والجنين الذي في بطنها، ثمَّ غفا قرب جثمانها يائسًا.
وعندما استيقظ نعيم، وجد نفسه محاطًا بالقشتاليّين، وتحدث معهم بالقشتاليّة، وعندما استغربوا ثيابه، قال إنَّه كان يستحم في النهر عندما سرق العبيد ثيابه فاضطر أن يرتدي ثيابًا أخذها من أحد القتلى ليستر عريه، فصدَّقوه، وساعدوه، ثمَّ عاد بعدها إلى غرناطة، وقد اعتاد نعيم على تذكّر هذه الحادثة كلَّما كان ينزوي إلى شجرة التين في حوش منزل مريمة، ويشرد وحيدًا متذكِّرًا ماضيه.
حياة عليٍّ
وقد كبر عليٌّ في أحضان جدَّيه حسن ومريمة، فكانا هما والديه، يعلِّمانه ويربِّيانه، ثمَّ جاء نعيم وشاركهم المنزل، وكان عليٌّ يلهو في الحيّ مع صديقته وردة وأخيها خوسيه، إضافة إلى أصدقائه الآخرين الذين جاؤوا من عائلات مختلفة، فمنهم من كان قشتاليًّا، ومنهم من كانوا من أبناء العبيد.
وكان نعيم يتجوّل مع عليّ في أحياء غرناطة؛ يروي له تفاصيل الحيّ والتغيّرات التي أُحدثت منذ طفولته، وكان يشتري لعليٍّ كلّ ما يعجبه من السوق حتَّى أغرقه بالدلال، وأحبَّ عليّ الاستماع للحكايات التي يرويها له حسن ومريمة، وكان يصرّ على مرافقة مريمة إلى السوق حيث تبيع الكعك، وعندما لم تكن مريمة تقبل أن يرافقها، كان حسن يغريه بحكاية جديدة من التاريخ العربيّ لم يروها له من قبل.
وكان علي يضجر من الشجارات والجدالات التي تتكرَّر بين مريمة وحسن ونعيم، ولم يكن يفهم سبب هذه الخلافات المتكرّرة، وكانت مريمة تلقي اللوم على حسن وأنَّه سبب رحيل ابنها إلى الجبال، وكان نعيم يحاول حلّ مشاكلهما فيدخل في خلاف معهما هو الآخر، واعتاد عليّ على الهرب من مشاكلهما بالذهاب إلى منزل جارهم إرناندو بن عامر ليلعب مع ولديه وردة وخوسيه.
وقد تعلّم علي الأبجديّة اللاتينيّة في مدرسته القشتاليّة، وأحبّ الغناء في القدّاس وصحبة القشتاليّين، ولم يرتح جدّه حسن لهذا الأمر؛ لذا علَّمه العربيَّة سرًّا في المنزل، قراءة وكتابة، ثمَّ قرَّر تعريفه بحقيقة أجداده وأصولهم العربيّة، واقترح أن يذهبوا إلى منزل العائلة في عين الدمع.
وفي عين الدمع، بدأت مريمة تنظّف المنزل، بينما راح نعيم وحسن وعليّ يقطفون الثمار، وخلال ذلك، كان حسن يعطي عليًّا مفتاحًا ويطلب منه أن يذهب إلى قبو المنزل ويتعرَّف على كنز العائلة، فقام عليّ بالمهمّة، وعاد إلى جدّه خائب الأمل؛ إذ إنَّه توقّع أن يجد ذهبًا وجواهر، وليس مجموعة كتب مغبَّرة مخزَّنة، فروى له جدّه حسن عن جدّه أبي جعفر، وكيف كان يجمع الكتب ويخفيها عن عيون القشتاليّين، وعلى الرغم من أنَّ عليًّا لم يهتمّ كثيرًا بالكتب، إلَّا أنَّ حسن أراد أن يورثه هذا السرّ الأمين.
ولا ينسى عليّ ذلك اليوم، عندما طرق باب المنزل رجل غريب الهيئة، يرتدي على رأسه قلنسوة حمراء ويربط حول رقبته منديلًا أحمر، وقد دخل الغريب المنزل دون استئذان، وعانق عليًّا بشوق ثمَّ مضى إلى داخل البيت، وقد سلَّم الغريب على مريمة التي سحرت برؤيته، أمَّا حسن فقد رفض الحديث مع الغريب، وبعدها يقترب الغريب من عليٍّ ويعطيه كيسًا فيه نقود، وقد كانت مريم مصدومة من مجيء الغريب، بينما كان حسن غاضبًا من زيارته. لم يخبر أحد عليًّا عن هويّة الغريب، لذا فقد عليٌّ ثقته بأهله، وقرّر الامتناع عن إخبارهم بأسراره مثلما امتنعوا هم عن إخباره بسرّ الزائر الغريب.
نعيم وحسن، مُسِنَّان يعيشان على ذكريات الغائبين
وبمرور الأيّام كان نعيم قد اعتاد على حياة غرناطة من جديد ولكنّه كان قد رفض تغيير ثيابه وأصرّ على لبس ذلك اللباس الغريب الذي أحضره من العالم الجديد، وكان يجتمع ببعض الرجال في الكنيسة التي كانت منذ زمن بعيد تسمَّى مسجد البيازين، وتحدَّث نعيم مع الرجال عن الكتب العربيّة التي خسروها بسبب الاحتلال، وروى لهم أنَّه شهد حرق الكتب في الساحة منذ كان طفلًا، وأنَّه كان يعمل فيما مضى في تغليف المخطوطات العربيَّة.
وبسبب كلامه هذا يطلب منه أحد الرجال أن يغلِّف له أوراقًا سرِّيّة ورثها عن أبيه، وكان ذلك عملًا خطيرًا بسبب القوانين التي تمنع تداول الكتب والمخطوطات المكتوبة باللغة العربيّة، ولكنْ نعيم وافق على الخدمة وبدأ بتغليف الأوراق، وعندما جاء ليكتب العنوان على غلاف المخطوط اضطرّ أن يروي الحكاية لحسن لأنَّ خطّ حسن جميل، ثمّ سلّم نعيم المخطوط للرجل الذي طلب منه ذلك.
وبعد فترة قبض على الرجل صاحب الكتاب، واتّهم نعيمًا بأنَّه من وشى به، فغضب نعيم لأنَّه معروف بصدقه وأمانته ولم يعرف من وشى بالرجل حقًّا، وشكّ بمريمة أنَّها من نشرت الخبر وأنّ حسنًا روى لها عن هذا المخطوط، وغضب نعيم منها وغادر المنزل مقرّرًا العودة إلى العالم الجديد حيث كانت تعيش زوجته مايا، فبحثت عنه مريم حتَّى وجدته وأقسمت له أنَّها لا تعرف شيئًا عن الكتاب الذي يتحدّث عنه، وبعد طول جدال وإصرار أقنعته مريم أنْ يعود إلى المنزل، وكانت تلك هي بدايات ضعف ذاكرة نعيم إذ بدأ يتصرّف بحساسيّة وانزعاج من كلّ تصرّف يقوم به حسن أو مريمة.
وبعد فترة مرضَ حسن، وكان قد أصبح كهلًا مريضًا لا قدرة له على السير، فأخذوه إلى منزل عين الدمع ولكنَّهم ما كادوا يصلون حتَّى عاد وطلب أن يعود الى البيازين لأنَّه يريد الموت في البيت الذي كبر وترعرع فيه، وعلى طريق العودة إلى البيازين وقبل وصولهم، يطلب حسن الذهاب إلى بالنسية ليرى بناته، ولكنَّ طلبه هذا كان مستحيلًا إذ ليس معهم إذنٌ بمغادرة غرناطة، ويبكي حسن بعد رفض طلبه، ثمّ أصبح بعد العودة طريح الفراش، وبدأ ينسى أسماء اصدقائه ويشتاق لسعد وسليمة، وظلَّت حالته هكذا حتَّى رحل مودِّعًا هذه الحياة.
وقد رفض نعيم الذهاب الى جنازة حسن قائلًا: "لن أكفِّن أحدًا من أهلي بعد اليوم"، ولم يطل الوقت حتَّى فقد نعيم عقله، وصار يفتعل المشاكل ويتَّهم مريمة بعدّة اتِّهامات، ولم تعد مريمة تحتمل تصرُّفات نعيم ولكنَّها قاومت قلَّة عقله إكرامًا لصداقته القديمة مع سعد وحسن، وبعد فترة قصيرة توفِّي نعيم تاركًا مريمة وعليًّا وحدهما، وكان لرحيل نعيم أثر قويّ على حياة عليٍّ، فحزن عليٌّ كثيرًا، وراح يتذكّر حكايات نعيم التي رواها له؛ تلك الحكايات التي تناولت حياة نعيم منذ أن كان طفلًا في غرناطة، وكيف علَّمه أبو جعفر تغليف المخطوطات، وكيف شهد حرق الكتب ووفاة أبي جعفر، وحكايات عمله وصداقته مع سعد، وكيف سافر الى العالم الجديد، وتعرَّف هناك على زوجته حيث بنى عائلة لنفسه، وكيف فقد أسرته، وكيف عاد إلى غرناطة ليراها قد تغيَّرت عن غرناطة التي كبر فيها.