المبحث الثالث: عقوبات المعاصي

فإن لم تردعك هذه العقوبات، ولم تجد لها تأثيرا في قلبك، فأحضره العقوبات الشرعية التي شرعها الله ورسوله على الجرائم، كما في قطع اليد في سرقة ثلاثة دراهم، وقطع اليد والرجل لقاطع الطريق، والضرب بالسوط على كلمة القذف.

فعقوبات الذنوب نوعان: شرعية، وقدرية.

فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبة القدرية وخففتها، فالعقوبة الشرعية شرعها الله سبحانه على قدر مفسدة الذنب واقتضاء الطبع لها، وجعلها سبحانه ثلاثة أنواع؛ القتل والقطع والجلد.

أما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة، فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة، وإذا رأى الناس المنكر فتركوا إنكاره أوشك أن يعمهم الله بعقابه.

القطع لإفساد الأموال

جعل سبحانه وتعالى حد السرقة القطع؛ لأن السارق يأخذ الأموال في الاختفاء، وينقب الدور، ويتسور من غير الأبواب، فهو يسرق خفية، فجعل القطع لإظهار وإبانة العضو الذي يتسلط به على الجناية، وجعل الجلد بإزاء إفساد العقول وتمزيق الأعراض بالقذف.

العقوبات القدرية

العقوبات القدرية نوعان، نوع على القلوب والنفوس، ونوع على الأبدان والأموال.

والتي على القلوب نوعان، الأول: آلام وجودية يضرب بها القلب. والثاني: قطع المواد التي بها حياته وصلاحه عنه.

والعقوبات القدرية على الأبدان نوعان، نوع في الدنيا، ونوع في الآخرة.

ومن عقوبات المعاصي الختم على القلب، والغشاوة على الأبصار، والأقفال على القلوب، وجعل الأكنة عليها والرين عليها والطبع وتقليب الأفئدة والأبصار، والحيلولة بين المرء وقلبه، وإغفال القلب عن ذكر الرب، وإنساء الإنسان نفسه.

الذنوب

وأصل الذنوب نوعان، ترك مأمور، وفعل محظور، وهما الذنبان اللذان ابتلى الله سبحانه بهما أبوي الجن والإنس.

والذنوب تنقسم إلى أربعة أقسام؛ ملكية، وشيطانية، وسبعية، وبهيمية، ولا تخرج عن ذلك.

فالذنوب الملكية: أن يتعاطى ما لا يصح له من صفات الربوبية، كالعظمة، والكبرياء، والجبروت، والقهر، والعلو، واستعباد الخلق، ونحو ذلك.

والذنوب الشيطانية: التشبه بالشيطان في الحسد، والبغي والغش والغل والخداع والمكر، والأمر بمعاصي الله وتحسينها، والنهي عن طاعته وتهجينها، والابتداع في دينه، والدعوة إلى البدع والضلال.

والذنوب السبعية: ذنوب العدوان والغضب وسفك الدماء، والتوثب على الضعفاء والعاجزين، ويتولد منها أنواع أذى النوع الإنساني وألوان الجرأة على الظلم والعدوان.

والذنوب البهيمية: مثل الشره والحرص على قضاء شهوة البطن والفرج، ومنها يتولد الزنا والسرقة وأكل أموال اليتامى، والبخل، والشح، والجبن، والهلع، وغير ذلك.

وقد أرسل الله عز وجل رسله، وأنزل كتبه، وخلق السماوات والأرض ليعرف ويعبد، ويوحد ويكون الدين كله لله، والطاعة كلها له، والدعوة له سبحانه وتعالى.

الشرك بالله

أنواع الشرك بالله

  • شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله.
  • شرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه سبحانه لا شريك له في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

شرك الوساطة

إن المشرك إنما قصده تعظيم جناب الرب تبارك وتعالى، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلا بالوسائط والشفعاء كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبية، وإنما قصد تعظيمه، وقال: إنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه وتدلني وتدخلني عليه، فهو المقصود وهذه وسائل وشفعاء.

الشرك في العبادة

يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله، وأنه لا إله غيره، ولا رب سواه، ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته، بل يعمل لحظ نفسه تارة، ولطلب الدنيا تارة، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وحظه وهواه نصيب.

الشرك في الأفعال والأقوال والإرادات والنيات

  • فالشرك في الأفعال، كالسجود لغيره، والطواف بغير بيته، وحلق الرأس عبودية وخضوعا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمين الله في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها، والسجود لها، وقد لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد يصلي لله فيها.
  • والشرك في اللفظ، ومن الشرك به سبحانه الشرك به في اللفظ، كالحلف بغيره.
  • والشرك في الإرادات والنيات، كمن أراد بعمله غير وجه الله تعالى، ونوى شيئا غير التقرب إليه، وطلب الجزاء منه، فقد أشرك في نيته وإرادته.

سوء الظن بالله

 أعظم الذنوب عند الله إساءة الظن به؛ فإن المسيء به الظن قد ظن به خلاف كماله المقدس، وظن به ما يناقض أسماءه وصفاته.

الشرك والكبر

 فلما كان الشرك أكبر شيء منافاة للأمر الذي خلق الله له الخلق، وأمر لأجله بالأمر، كان من أكبر الكبائر عند الله.

القول على الله بلا علم

القول على الله بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، ووصفه بضد ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا أشد شيء مناقضة ومنافاة لكمال من له الخلق والأمر، وقدحا في نفس الربوبية وخصائص الرب، فإن صدر ذلك عن علم فهو عناد أقبح من الشرك، وأعظم إثما عند الله.

الظلم والعدوان

لما كان الظلم والعدوان منافيين للعدل الذي قامت به السماوات والأرض، وأرسل له سبحانه رسله عليهم الصلاة والسلام، وأنزل كتبه ليقوم الناس به - كان من أكبر الكبائر عند الله.

جريمة قتل النفس

من أكبر الكبائر، حيث إزهاق الأرواح البريئة، فالحياة هبة من الله، ملعون من يسلبها من صاحبها بغير حق.

جريمة الزنا

ولما كانت مفسدة الزنا من أعظم المفاسد وهي منافية لمصلحة نظام العالم في حفظ الأنساب، وحماية الفروج، وصيانة الحرمات، وتوقي ما يوقع أعظم العداوة والبغضاء بين الناس، من إفساد كل منهم امرأة صاحبه وبنته وأخته وأمه، وفي ذلك خراب العالم؛ كانت تلي مفسدة القتل في الكبائر. الوقوع في الكبائر وخاصة الزنا، له خطوات، منها: النظرة، والخطرة، واللفظة، والخطوة، وكل هذه الخطوات موصلات للوقوع في الكبائر.

عقوبة اللواط

لما كانت مفسدة اللواط من أعظم المفاسد؛ كانت عقوبته في الدنيا والآخرة من أعظم العقوبات.

 


الداء والدواء
الداء والدواء
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00