الحرِّيَّة المنشودة

إن الحرِّيَّة أثقل عبئًا على الظالمين والجبابرة والمخادعين؛ فلذلك ما فتئ هؤلاء منذ أقدم العصور يبتكرون الحيل للضغط على الحرِّيَّات وتضييقها أو خنقها، واستعانوا على ذلك الضغط برسوم الوثنيَّة بانتماء الجبابرة والملوك إلى آلهة يختلقون أنَّها أباحت لهم الحكم في الناس ليكمِّموا الأفواه عن الشكاية والضجيج.

وتنقسم الحرِّيَّة إلى حرِّيَّة اعتقاد، وحرِّيَّة تفكير، وحرِّيَّة قول، وحرِّيَّة فعل، وهذه الحرِّيَّات الأربع محدودة في نظام الاجتماع الإسلاميّ بما حدّدت به الشريعة الإسلاميّة..

فأمَّا حرِّيَّة اعتقاد المسلم فإنَّها محدودة بما جاء به الدين الإسلاميّ، فإذا ارتدَّ أحد عن الإسلام جملة بعد أن كان من أهل الملَّة فقد نقض العهد الذي دخل به في الإسلام، فيستتاب ثلاثة أيّام، فإن لم يتب قتل، فقد قاتل أبو بكر القبائل التي ارتدت عن الإسلام بعد وفاة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولم يخالفه أحد من الصحابة، وقاتلوهم معه إجماعًا منهم على قول النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "من بدَّل دينه فاقتلوه".

وأمَّا حرِّيَّة اعتقاد غير المسلم من أصحاب الملل الخاضعين لحكومة الإسلام فقد قال الله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256].

وقد دلَّت آيات القرآن وأقوال النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أنَّهم يُدعون إلى الدخول في الإسلام؛ فإن لم يقبلوا دُعوا إلى الدخول تحت حكم المسلمين وهي حالة الذمَّة أي دفع الجزية، أو حالة الصلح والعهد، وفي تلك الأحوال يبقون على أصل الحرِّيَّة في البقاء على ما هم عليه من مللهم.

وأما حرِّيَّة الفكر، فهي فيما عدا الاعتقاد الدينيّ ممَّا يشمل التفكير في الآراء العلميّة، والتفقُّه في الشريعة والتدبير السياسيّ، وشؤون الحياة العاديّة، فهي صنف من الحرِّيَّة لا يكاد يستقلّ بنفسه؛ لأنَّ ما يجول بالخاطر لا يعرف إلا بواسطة القول أو بما تؤذن به بعض الأعمال ، فلذلك كانت هذه الحرِّيَّة لا يتطرَّق إليها تحجير.

وأما حرِّيَّة القول لها متين تعلُّق بمعاشرة الناس ومحاوراتهم والملاطفة بينهم وممازحاتهم وهي حقٌّ فطريٌّ؛ لأنَّ النطق وهو التعبير عمَّا في الضمير باللغات غريزة في الإنسان يعسر أو يتعذَّر إمساكه عنها، فكان الأصل أنَّ لكلِّ أحد أن يقول ما شاء أن يقوله ولا يمسكه عن ذلك إلَّا وازع الدين بأن لا يقول كفرًا أو منهيًّا عنه، أو وزاع الخلق بأن لا يقول قذعًا أو هذيانًا، أو وزاع التبعة على أذًى يلحق غيره بسبب مقاله، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلَّا حصائد ألسنتهم". والأصل في حرِّيَّة القول هو الصدق في الإخبار؛ فإنَّ الكذب ممنوع وقبيح.

وأكبر مظاهر حرِّيَّة القول في الإسلام حرِّيَّة القول في تغيير المنكرات الدينيَّة، وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "من رأى منكم منكرًا فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان".

فكذلك نشأ المسلمون صُرحاء متناصحين قوَّالين للحقّ ناهين عن المنكر، وإليك مثالًا فاتقًا في هذا الغرض، وهو ما ذكره الفقهاء والمؤرِّخون أنَّ عمر بن الخطَّاب خطب الناس يومًا فقال في خطبته: "ألا لا تغالوا في الصدقات فإنَّ الرجل يغالي حتَّى يكون ذلك في قلبه عداوة للمرأة يقول: تجشَّمت عرق القربة، فكلَّمته امرأة من وراء الناس فقالت: كيف تقول هذا والله يقول: {وءاتيتم وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا} [النساء: 20] ، فقال عمر: أخطأ عمر وأصابت امرأة، وقال لأصحابه: تسمعونني أقول مثل هذا فلا تنكرونه عليَّ حتَّى تردَّ عليَّ امرأة ليست من أعلم النساء، ودام المسلمون على نحو من هذا إلى بعض خلافة عبد الملك بن مروان، فقد روي أنَّه أوَّل من حجر معارضة الخليفة في حال الخطبة.

ومن حرِّيَّة القول حقُّ المراجعة مع المتلبِّس بفعل أو قول في تحرير ما إذا كان  ذلك الفعل صوابًا أم خطأً؟، مناسبًا لسياقه موافقًا لغرضه أم غير ذلك؛  كما راجع حباب بن المنذر الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم يوم بدر حين نزل بالجيش بأدنى ماء من بدر.

وأما حرِّيَّة العمل، فشواهد الفطرة تدلّ على أنَّ هذه الحرِّيَّة أصل أصيل في الإنسان؛ فإنَّ الله تعالى لمَّا خلق للإنسان العقل وجعل له مشاعر تأتمر بما يأمرها العقل أن تعمله، وميَّز له بين النافع والضارّ بأنواع الأدلَّة كان إذن قد أمكنه من أن يعمل ما يريد ممَّا لا يحجمه عنه توقُّع ضرٍّ يلحقه، فما عدا ما حدَّد منعه في الشريعة من التصرُّف؛ فالأصل في سعي الإنسان فيه وتناوله هو الإباحة، وقد لقَّبها علماء أصول الفقه بالإباحة الأصليَّة.

 


أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
محمد الطاهر بن عاشور
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00