إصلاح العمل 

أعمال العاملين تجري على حسب معتقداتهم وأفكارهم، فجدير بمن صلحت عقائده وأفكاره أن تصدر عنه الأعمال الصالحة، والأعمال البشريَّة قسمان:  نفسيَّة وبدنيَّة.

الأعمال النفسية

من الأعمال النفسية، إصلاح الضمائر والذي يظهر في النهي عن الكبر والعجب والغضب والحقد والحسد، وفي الأمر بالإخلاص وحسن النيّة والإحسان والصبر، والمنهيّ عنه من هذه الأدواء القلبيّة كلّه حائل عن الكمال موجب لدوام النقص أو زيادته..

أمَّا الحقد فهو صارف للهمَّة إلى الانتقام، وذلك صارف عن الكمال والاشتغال بما يفيد، والغضب يتلف الفكرة ويسلب المواهب، والحسد إنَّما ينشأ من اعتقاد العجز عن اللحاق بصاحب النعمة فيتمنَّى زوال النعمة عن صاحبها وذلك بخس لصاحب النعمة والشأن، وفيه تقصير عن اكتساب مثلها إن كانت فيه مقدرة، أو عدم الرضا بما قسم له من ربِّه إن لم تكن له مقدرة على اللحاق بالمنعم عليهم.

والمأمور به من هذه الفضائل القلبيَّة كلّه سبب اكتساب الكمال والمجاهدة للنوال؛ فالإخلاص في العمل هو أن يريد المسلم بكلّ قول وعمل من البرّ وجه الله تعالى، وبذلك يندفع إليه اندفاع العامل لنفسه لا لإرضاء الناس؛ فإنَّ العمل لإرضاء الناس يسمَّى رياءً وهو مشتقٌّ من الرؤية، أي ليراه الناس، وهو لا يرجى منه خير؛ لأنَّه إذا خلا إلى نفسه ارتكب الموبقات وفتق ما رتقه من أعماله التي دفعه إليها الرياء.

وحسن النيَّة ينبعث من محبَّة الخير العامّ وإتقان العمل الصالح، والإحسان أن يتذكَّر أنَّ الله يراه في سائر أعماله، فيعبده بامتثال أوامر شرعه واجتناب نواهيه، كأنَّه يراه ماثلًا هو بين يديه.

والصبر ملاك ذلك كلِّه، والتدريب عليه هو وسيلة النجاح؛ لأنَّ جلائل الأعمال كلّها يعترضها ضعف المقدرة وتثبيط الكسل وإنكار الجهال ولوم اللوَّام، فلا تقلّ حدّة ذلك كلّه إلَّا بالصبر، ثمَّ إنَّ للصبر فائدة أخرى عظيمة وهي تربية قوَّة الإرادة في النفس، وتسمَّى هذه القوى بالهمَّة وبالعزيمة وهي خلق تنشأ عليه النفس، من شأنه أن يدفعها إلى السعي في تحصيل ما تتطلَّبه بدون كلل، فلا يزال هذا الخلق ينمو حتَّى تصير الأخطار لديه محتقرة، وصاحب هذا الخلق مظهر للأعمال العظيمة في كلّ غرض يعمد إليه من علم أو تأليف أو تدبير دولة أو قيادة جيش أو غير ذلك. وغرضنا هنا هو الإشارة إلى فهم فضائل الأخلاق وأثرها في صلاح العمل.

وأمَّا التوكُّل فهو الاعتماد على الله في تحصيل المرغوب من الدنيا أو الآخرة، وذلك بتيسير الأسباب للنجاح ودفع العوائق المفضية إلى الخيبة، وله أثر عظيم في نجاح الأعمال؛ إذ هو في معن الاستعانة بالله بعقد القلب على رجاء الإعانة أو بسؤاله مع ذلك بالدعاء باللسان، وقد أمر الله به في كتابه وأثنى على المتوكِّلين. وهذه الخصلة الجليلة هي مثار الثقة بالنجاح في ابتداء الأعمال، وهي سرّ نجاح الأعمال والإقدام على جلائلها في ابتداء العزم عليها ولا سيَّما في الأحوال النادرة التي يضطر إليها في المضايق العامَّة أو الخاصَّة بحيث لا مندوحة عن الإلقاء بالنفس فيها، قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِين} [البقرة: 249].

وقد انتفع المسلمون بإدراك كنهها عصرًا طويلًا، ثمَّ اعتراها التحريف وعادت إلى عقائد الجاهليَّة فتوهَّموا التوكُّل الاستسلام والفشل والقعود عن العمل وهذه عقيدة جاهليَّة.. جاء في صحيح البخاريّ وكتب التفسير أنَّ أهل اليمن كانوا يحجُّون بلا زاد ويقولون كيف نحجُّ بيت الله ولا يطعمنا؟ ويقولون: نحن المتوكِّلون على الله، ثمَّ يكونون كلًّا على الناس بالإلحاف في السؤال، فنزل فيهم قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195].

وجاء رجل إلى أحمد بن حنبل فقال له: أريد أن أخرج إلى مكَّة على التوكُّل بغير زاد، فقال له أحمد: اخرج في غير القافلة، فقال: لا، إلَّا معها. فقال أحمد: فعلى جرب (أوعية جلديَّة يوضع فيها الطعام) الناس توكَّلت.

والرضى بالقضاء والقدر أدب إسلاميٌّ موقعه عند الأحوال التي يغلب المسلم فيها على سعيه فيخيب فيه، أو عند الحوادث الخارجة عن مقدرة الإنسان، فمن الأدب الدينيّ أن يرضى بذلك ولا يجزع، وهو ضرب من الصبر معلَّل باعتقاد أنَّ قدرة الله أكبر من كلّ مقدرة، فعدم تيسُّر المسبَّب مع السعي في الأسباب بدون تقصير يدلّ على أنَّ الله لم تتعلَّق إرادته بحصوله، ونعم هذا للرجل المسلم في حياته بحيث يكون مطمئنّ البال عند المصائب متأدِّبًا مع ربِّه، فالرضى بالقضاء والقدر سلوة وعزاء للمؤمن وليس عذرًا يتعذَّر به المقصِّر عند تقصيره أو المستسلم في فشله.

الأعمال البدنيّة

وهذه ملاك صلاحها الوقوف عند حدود الشريعة فيها، واعتقاد أنَّ ذلك سبب النجاح، روى البخاريُّ ومسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "إنَّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: {يا أيها يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون :51].

فالأحكام الشرعيَّة الخمسة: الوجوب والندب والإباحة والكراهة والحرمة، إصلاح للعمل، وملاك أصل نظام صلاح الأعمال النظر إلى المصلحة والمفسدة المطَّردتين أو الغالبتين، وفي معاملات الناس ملاكه قوله صلَّى الله عليه وسلَّم كما في الموطأ: "لا ضرر ولا ضرار".

وثمَّة أشياء تعين على صلاح العمل وتيسِّره وهي: النظام، والتوقيت، والدوام، وترك الكلفة، والمبادرة، والإتقان. فالنظام عون على إكمال الأعمال ويسرها، وشاهد في الشريعة ترتيب أركان العبادات وواجباتها كترتيب أعضاء الوضوء وأجزاء الصلاة. وأمَّا الدوام ففي الحديث: "إنَّ الله يحبُّ من الأعمال ما كان ديمة وإن قلَّ"، وقد حذر الإسلام من سوء الخاتمة التي هي في معنى إبطال الدوام على العمل الصالح.

وأمَّا ترك الكلفة فقد قال الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين} [ص: 86]، وفي الحديث: "عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإنَّ الله لا يملّ حتَّى تملُّوا". وقد ظهر أنَّ ترك الكلفة له انتساب بالدوام. وأمَّا المبادرة بالعمل فلخشية جريان الموانع، وقد قسِّمت الواجبات إلى واجبات مضيَّقة وواجبات موسَّعة، ولهذه المبادرة انتساب بتوقيت بعض العبادات، ثمَّ إنَّ المبادرة تؤذن بالحزم. وأمَّا الإتقان فإنَّه يتفرَّع عن حسن النيَّة، ومعنى الإتقان صرف العامل جميع جهوده ومعرفته في عمله ليكون محصِّلًا لأحسن ما يقصد منه أو ينشأ عنه، قال الله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: 88]. وقد أمرنا بالحكمة وفُسِّرت بأنَّها التشبُّه بالخالق تعالى بقدر الإمكان البشريّ.

وممَّا تجب العناية به في تحقيق صلاح الأعمال المحافظة على تحقيق حصول المقاصد الشرعيّة منها؛ فإنَّ جميع التشريعات مشتملة على تحصيل مصالح أو دفع مفاسد.

الإصلاح الاجتماعيّ

من عجيب وبديع تأييد الله تعالى لهذا الدين وتيسير أسباب ظهوره أن جعل لمدَّة ظهوره طورين عظيمين هما: طور إقامة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم بموطنه مكَّة وهذا طور ما قبل الهجرة، وطور ما بعد هجرته إلى يثرب، وأنَّ غرضي التشريع الإسلاميّ في الإصلاح كانا موزَّعين على ذينك الطورين، فكان الطور الأوَّل معظمه للإصلاح الفرديّ، وكان الطور الثاني معظمه للإصلاح الاجتماعيّ، وما دخل الإسلام في طوره الثاني عند الهجرة إلَّا وقد كانت له جماعة صالحة كاملة الأهبة لما يناط بعهدتها من الإصلاح، فكانت جامعة المسلمين يومئذ تتألَّف من المسلمين الأوَّلين القاطنين مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بمكَّة وهم نحو خمسين رجلًا ومن المسلمين المهاجرين إلى الحبشة وهم نحو ثمَّانين رجلًا، ومن مسلمي الأوس والخزرج أهل المدينة وهم زهاء أربعة آلاف رجلٍ، هذا كلّه عدد صالح لنشر إصلاح الإسلام وبثّ فضيلته في نفوس الناس فيما بعد والصدع بدعوته على رؤوس الملأ، فكان الإسلام يومئذ حقيقًا بأن يسرع في إصلاحه الاجتماعيً وتأسيس قواعده وإشادة صروحه.

إيجاد الجامعة الإسلامية

جعل الإسلام جامعة الدين (أي آصرة الدين وهي مجموع التفكير الصحيح والعمل الصالح) هي الجامعة الحقَّة للمسلمين، وأبقى ما عداها من الجوامع جوامع فرعية تعدُّ صالحة ما لم تعد على الجامعة الكبرى بالانحلال.

وأيَّد الاسلام الجامعة الدينيَّة العقليَّة التي أقامها للمسلمين بتأييد من الناحية النفسيَّة بأن اعتبر أهلها إخوة، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشرِّ أن يحقر أخاه المسلم".


أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
أصول النظام الاجتماعي في الإسلام
محمد الطاهر بن عاشور
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00