لكي ينجح المرء والجماعة في المجتمع، لابد من معرفة أصول إصلاح التفكير، والتي هي:
العقيدة هي أصل الاسلام، فالدعاء إلى تصحيح التفكير فيها تأصيل للتفكير عند المسلم في أوَّل تلقِّيه للإسلام، وهذا مسلك القرآن في إبطال العقائد المنحرفة:
دعوة نصوص القرآن والسُّنَّة إلى الأمر بالتفكير في تلقِّي الشريعة لا تبلغ مبلغ ما لها من نصوص في الدعوة إلى التفكير في العقيدة؛ ووجه ذلك أنَّ دلائل الأمور الاعتقاديَّة أدخل في الفطرة وأوضح في الدلالة فكانت دعوة عامَّة الأمَّة إليها متيسِّرة بخلاف دلائل التشريع؛ فإنَّها تخالف دلائل الاعتقاد من ثلاثة وجوه:
الأوَّل: أنَّها أخفى دلالة وأدقُّ مسلكًا فلا تتأهَّل لإدراكها جميع العقول.
الثاني: أنَّ المقصد من مخاطبة الأمَّة بالشريعة وامتثالهم لها أن يكون عملهم بها كاملة، وهذا المقصد لا يناسبه وضع الشريعة للاستدلال بالنسبة لعموم الأمَّة.
الثالث: أنَّ المخاطبين بالشريعة هم الذين استجابوا للإيمان وصدَّقوا الرسل فالاستغناء معهم عن التصدِّي للإقناع أدلّ على الثقة بإيمانهم والشهادة لهم بالإخلاص فيه، قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء : 65]، فجعل انتفاء الحرج من أحكام الرسول غاية لحصول إيمانهم، وتشريعه الذي يبلِّغه إليهم هو من أحكامه، فدلَّنا هذا على أنَّ الطريق الموصِّل إلى إيمانهم هو طريق استدلال، والطريق المساير لهم بعد إيمانهم هو طريق تسليم وامتثال.
على أنَّ الإسلام لم يغمض عن أدلَّة الأحكام عينًا، ولا ترك حبلها على غاربها تجتاب به تردُّدا ومينًا، ولكنَّه كنزها في إيماء خطابه للعامَّة تحت ستار الإشارة والتلويح، وأبرزها في أقوال المشرِّع وأفعاله لدى الخاصَّة بوجه صريح؛ كما في آية تحريم الربا وعدم بيان العلَّة في التفريق بينه وبين البيع، وتعليله لحرمة الخمر.
فنشعر من ذلك بأنَّ القرآن إنَّما يتنزَّل إلى بيان علَّة الحكم في الأحكام التي جاء التشريع فيها بحكم غير معهود، وكان فيه نزع للنفوس عن داعية هوًى قديم؛ استئناسًا لنفوس المخاطبين، واستنزالًا لطائرها؛ كما في تحريم الخمر وإبطال الثأر؛ فقد كان شأن العرب في التعلُّق بهما عظيمًا، أمَّا أقوال الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم وأفعاله في خاصَّة أصحابه فما كانت لتخلو عن إيضاح العلَّة والحكمة.
ويكون بتعليم المسلمين أنَّ العبادات كلَّها تعود عليهم بالخير عاجلًا وآجلًا، ولا تعود على المعبود بنفع ولا ضرّ، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون، مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون} [الذاريات: 56-57]، وقال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحجّ: 36].
فلم يبق أحد من العرب غير فاهم حكمة مشروعيّة الهدي في الحجّ، وذلك لم يكن معلومًا لهم من قبل؛ إذ كان همُّ المقرِّب هديًا أو قربانًا أن يلطِّخ بدم الذبيحة موقع الذبح.
لم يجعل الإسلام سعادة المرء في الحياة الآخرة منوطة بالحظِّ أو بقبيلة أو نسبة أو عصر أو بلد، وإنَّما مناطها بمقدار ما يقدِّمه المسلم في حياته الدنيا من الأعمال الصالحة قلبًا وبدنًا؛ قال تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل: 32].
فمدار أمر النجاة على التقوى، ولذلك تكرَّر الترغيب في التقوى في القرآن، قال أبو بكر بن العربيّ: لم يتكرَّر لفظ في القرآن مثلما تكرَّر لفظ التقوى. وقد بين الغزاليّ في الإحياء الفرق بين مقام الرجاء ومقام الطمع، وقد كانت ملاحظة هذا المعنى من أكبر أسباب فلاح المسلمين الأوَّلين، حتَّى إذا احترفوا الكلام، وتعلَّقوا بالأوهام، وتطلَّبوا المسبَّبات من غير أسبابها، وأتوا البيوت من ظهورها لا من أبوابها؛ صاروا إلى ما ترى.
الأخذ بالحزم ناحية من نواحي التفكير الصحيح؛ لأنَّه يقي المرء الوقوع في الأرزاء التي قد يتعسَّر دفعها أو يضيع في دفعها وقت ثمين، فالحزم ملاك النجاح، والحزم نوع ضعيف من سوء الظنِّ، لكنَّه لا يرتِّب عليه صاحبه معاملة المظنون به على حسب ما ظنَّ به، بل يرتِّب عليه الحذر ممَّا عسى أن يأتيه المظنون به.
ينبني التفكير في المعاملة بين الناس على الشعور بما لأجله احتاج المرء إلى المعاملة مع الناس، وعلى الإنصاف من النفس، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: "لا يؤمن أحدكم حتَّى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".
وهذا من أهمِّ مواقف التفكير الصحيح؛ لأنَّ تصوُّر الحالة العامَّة على خلاف ما هي عليه يوقع في مصائب ذاتيَّة بالنسبة إلى تصرُّف المرء في ذاته، وفي مصائب متجاوزة للجماعة أو للبلد أو للأمَّة بالنسبة إلى ما يتصرَّف فيه المفكِّر من شؤون الناس من ملك أو وزير أو قائد جيش أو سفير.
فالمصائب الذاتيَّة مثل: الجهل بقيم السلع في بلدان العالم، و بالرغبة في بعض السلع دون بعض، وهذا ممَّا يعرض التاجر للخسارة في الاقتناء أو في البيع، ومثل الجهل بأخلاق بعض الأمم أو بأحوال بعض البلاد؛ من أحوال جوِّها وسبل الوصول إليها،فهذا يوقع المسافرين في أضرار جمَّة.
وأمَّا المصائب المتجاوزة فهي بيِّنة، وكذلك الاتعاظ بأحوال الأمم الغابرة لتجنُّب أسباب الهلاك، ولأجل هذا التفكير وعائدته على الأمَّة أكثر الله سبحانه وتعالى في كتابه من قصص الأوَّلين ومواضيع العبرة بهم قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيد، وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [هود: 100-101].
إنَّ العلم الصحيح عبارة عن إظهار الحقائق في صورة جامعة لها، وتسهيل إدراكها لمريده بما يمكن من السير في المزاولة، والاقتصاد في الوقت، قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26]؛ فالهوى هو مايشتهي المرء أن يكون بقطع النظر عن مصادفته الصواب والحقّ، وهذا المذموم، فإذا وافق الهوى سبيل الله وهو الحقّ سمِّي ذلك الهوى توفيقًا وشرح صدر وتيسيرًا، وهو صفة الكاملين؛ إذ يصادف مشتهاهم الحقّ؛ لأنَّهم تلبَّسوا بالحقّ حتَّى صار لهم جبلَّة. قال عمر: "حتَّى رأيت أنَّ الله قد شرح لذلك صدر أبي بكر فعلمت أنَّه الحقُّ".
وإنِّي قد وجدت السبيل المذموم في العلم راجعًا إلى التكلُّف، وترك الجادَّة، واتِّباع بنيَّات الطريق، وتعسُّف السبل المنحرفة، وأنَّ ملاك الصواب هو ترك التكلُّف.
هذا ما عنَّ لي من النواحي التي دعا الإسلام إلى صحَّة التفكير فيها، وإنَّها لمن أهم النواحي وأجمعها، وما عسى أن أكون قد ذهلت عنه فبصر المطالع لهذا المقدار في مثله حديد، وزمام تسخيره بيده لا يحوجه إلى ارتياض جديد، وإنَّك لتوقن بأنَّ أمَّةً يزجي بها دينها إلى صحَّة التفكير في كلّ النواحي العارضة في الحياة العقليّة والعلميّة لهي جديرة بما نالته من سيادة العالم أيّام كانت أخلاقها الدينيّة غير مشوبة بخليط الخطأ في فهمه حقَّ فهمه، وتوقن بأنَّ تراجعها القهقهرى له مزيد اتِّصال بنبذ هذا الأصل عندهم إلى الوراء.