هذه النظم تتفرَّع إلى فنَّين أصليّين:
الفنُّ الأوَّل: فنُّ القوانين الضابطة لتصرُّفات الناس في معاملاتهم.
والفنُّ الثاني: فنُّ القوانين التي بها رعاية الأمَّة في مرابع الكمال والذود عنها أسباب الاختلال.
فالفنُّ الأوَّل عماده مكارم الأخلاق والعدالة والإنصاف، والاتِّحاد والمواساة (من تحابب ونصح وحسن معاشرة وسماحة)، والفنُّ الثاني عماده: المساواة، والحرِّيَّة ، وتعيين الحقّ والعدل ومال الأمَّة، وتوفير الأموال، وحماية البيضة (الجهاد والتجارة إلى أرض العدو، والصلح، والجزية) والتسامح ونشر الدين.
والفنُّ الأوَّل موكول إلى الوازع الدينيّ النفسانيّ، والفنُّ الثاني: موكول إلى تدبير ساسة الأمَّة بإجرائهم الناس على صراط الاستقامة في مقاصد الشريعة بالرغبة والرهبة.
الفنُّ الأوَّل: فنُّ القوانين الضابطة لتصرُّفات الناس في معاملاتهم
مكارم الأخلاق
وأساس مكارم الأخلاق هو تزكية النفس الإنسانيّة، أعني ارتياض العقل على إدراك الفضائل وتمييزها عن الرذائل الملتبسة بها، وارتياضه أيضًا على إرادة التحلِّي بتلك الفضائل وعدم التفريط في شيء منها لاعتقاده أنَّ بلوغ أوج الكمال لا يحصل إلَّا بذلك التحلِّي.
وهذا الإدراك هو العلم الصحيح وقوامه صحَّة التفكير، والإرادة، والعزم، والأمر بالسير على مقتضاها، ويتكوَّن من مجموع ثلاثتها إصلاح العمل. ولا تغني القوانين المسطورة والزواجر الموقورة غناء مكارم الأخلاق، وفي الموطَّأ ثبت قول رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "بعثت لأتمِّم حسن الخلق".
العدالة والمروءة
والعدالة ملكة تمنع من قامت به من اقتراف الكبائر (الملكة كيفيّة راسخة في النفس تسير أعمال صاحبها على مقتضاها باطِّراد). وأحسن تفسير لها أن لا تفعل في سرِّك ما تستحي أن تفعله جهرًا.
الإنصاف من النفس
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء : 135]. وفي الترمذيِّ وقال حديث حسن قول النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "الكيِّس من دان نفسه"، أي حكم عليها وحده وحاسبها وبيَّن لنفسه تقصيرها.
الاتِّحاد والوفاق
إنَّ أمَّةً تنشأ على التطبُّع بالرأي الصحيح والتخلُّق بأخلاق الأخوَّة والمواساة وحبّ الحرِّيَّة وتوقير العدل، لأمَّة خليقة بأن تعرف مزيَّة الوحدة فتكون متَّحدة متوافقة وتصبح كالجسد الواحد تراه عديد الأعضاء والمشاعر ولكنَّه متَّحد الإحساس متَّحد العمل. قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: "ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى". وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]؛ لذا شرع الاجتماع في أفضل المناسبات، ففي الصلاة وفي الجمعة وفي الحجّ، كما أنَّه وضع للأمَّة الإسلاميَّة نواة وحدة لغة التفاهم بينهم بما شرعه من تعلُّم شيء من القرآن ولو جزءًا قليلًا.
المؤاساة
والمؤاساة هي: كفاية حاجة محتاج الشيء ممَّا به صلاح الحال، وهي تندرج تحت أصل الأخوَّة الإسلاميَّة.
الفنُّ الثاني: فنُّ القوانين التي بها رعاية الأمَّة في مرابع الكمال والذود عنها أسباب الاختلال
وهو يعني فيما على ولاة الأمور تسييره وتحقيقه لصالح الجمهور، وأعمدة هذا الفنَّ هي: المساواة، والحرية، وضبط الحقوق، والعدل، ونظام أموال الأمَّة، والدفاع عن الحوزة، وإقامة الحكومة، والسياسة، والاعتدال والسماح ، وترقية مدارك الأمَّة رجالا ونساء، وصيانة نشئها من النقائص، وسياسة الأمم الأخرى، والتسامح، والوفاء بالعهد، ونشر مزايا الإسلام وحقائقه ورجاء تعميمه في البشر.
المساواة
الإسلام دين قوامه الفطرة، فكلّ ما شهدت الفطرة بالتساوي فيه بين الناس فالإسلام يرمي فيه إلى المساواة، وكلّ ما شهدت الفطرة بتفاوت المواهب البشريّة فيه فالإسلام يعطي ذلك التفاوت حقّه بمقدار ما يستحقه. فالمساواة أثر من آثار الأخوَّة المفروضة بين المسلمين، وهي أيضًا أصل عظيم من أصول نظام الاجتماع الإسلاميّ.
الحرِّيَّة
لفظ الحرِّيَّة وما اشتقَّ منه في العربيَّة يفيد معنًى مضادًّا لمعنى الرقّ والعبوديّة، فالحرُّ من ليس بعبد، ولفظ الحرّ والحرِّيَّة من الألفاظ ذات المعاني النسبيَّة؛ لأنَّها التخلُّص من الرقّ والعبوديّة فلا يتصوَّر معناها إلَّا بعد ملاحظة معنى الرقِّ والتوقُّف عليه، والعبد اسم للآدميّ المملوك لآخر، وليس هذا هو المراد هنا.
وهناك إطلاق حديث على لفظ الحرِّيَّة وهو أن يراد منه معنى: عمل الإنسان ما يقدر على عمله حسب مشيئته لا يصرفه عن عمله أمر غيره. لقد استعمل هذا اللفظ في هذا المعنى من أوائل القرن الثالث عشر الهجريّ بعد أن ترجمت كتب تاريخ فرنسا والثورة التي قامت فيها سنة 1789م. وهو يقارب ما يعبَّر عنه في العربيَّة بلفظ الانطلاق أو الانخلاع من ربقة التقيّد ولا نعرف كلمة مفردة في العربيّة تدلّ على هذا المعنى.
وقد دخل التحجير على البشر في حرِّيَّته من أوَّل وجوده إذ أذن الله لآدم وزوجه حين خُلقا وأسكنا الجنَّة الانتفاع بما في الجنَّة إلَّا شجرة من أشجارها، قال تعالى: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِين} [الأعراف: 19].
إنَّ الحرِّيَّة هذه خاطر غريزيّ في النفوس البشريّة فيها نماء القوى الإنسانيَّة من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقليّة متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق، فلا يحقّ لها أن تسام بقيد إلَّا قيدًا يُدفع به عن صاحبها ضرٌّ ثابت أو يُجلب به نفع.
وقد ابتدأت رحمة الله بالبشر بأن وضع لهم الشرائع وأرسل إليهم الرسل الهداة وقيَّض لهم الحكماء والمرشدين يرشدونهم جميعًا إلى طرائق السير بحرِّيَّاتهم، وأن تراعي كلّ صالح غيره في تطبيق استعمال حرِّيَّته، فاستقامت أحوال البشر بحسب ما هيَّأهم لقدره مبلغهم من الحضارة. ولم يسبق الإسلام شريعة دينيَّة ولا وضعيَّة أقامت حقوقًا للعبيد وحماية لهم من الأضرار بمقدار ما أقامت لهم الشريعة الإسلاميّة.