خط الإنحراف

من أوامر الله لهذه الأمة تحقيق العدل الرباني، وربط هذا الأمر بالعقيدة في الله، وجعله خالصا لله يجعله سمة من سمات هذه الأمة أو لازما من لوازم وجودها؛ ليهيئ لها القيام بدورها في قيادة البشرية وريادتها. إن ميزان العدل لا يميله حب ولا بغض . . ولا تميله عصبية ولا قرابة ولا مصلحة أرضية، بل إنه لا يميل حتى إلى جانب المشاركين في العقيدة على حساب المخالفين لها ولو كانوا في مجموعهم ظالمين!

وقد كانت هناك انحرافات في العصر العباسي، أبرزها الترف الذي أصاب الحياة بتأثير المال المتدفق من كل اتجاه، وقد أصاب الترف الكثير من الممالك الإسلامية حيث تروي لنا كتب التاريخ المزيد من صور الترف والبذخ وإنفاق المال في حفلات الزواج بإسراف.

ومن أبرز سمات هذا الدين دعوته للأخلاق السامية في كل تصرفات الإنسان، حيث ربط بين الأخلاق وبين لا إله إلا الله!

ومن سمات أمة الإسلام الوفاء بالعهود والمواثيق، حيث أصبح خلقا لها تتميز به في وسط شعوب الأرض. فالعهد الذي يبرمه المسلم هو عهد معقود باسم الله، إنه جزء من الميثاق الذي يلتزم به المؤمن تجاه ربه.

والرغبة في التعلم والمعرفة رغبة فطرية أودعها الله لتكون إحدى أدوات الإنسان للقيام بعمارة الأرض، فالعلم أداة من أدوات عمارة الأرض والسعي وراء الرزق والقيام بدور الخلافة في الأرض. وقد جعل الله طلب العلم فريضة على الأمة، فاتجهت إلى طلبه وغيرت مجرى التاريخ، فقد بدأ المسلمون يحولون اتجاه البحث العلمي من المجال النظري الفلسفي، إلى المجال العلمي التجريبي، فالمسلمون هم الذين أسسوا المنهج التجريبي في البحث العلمي.

ويُراد بالحركة الحضارية الإسلامية الجانب المادي والتنظيمي منها، وهو الذي تأخر ظهوره عن الجيل الأول (وهو جيل الصحابة). أما الجانب المعنوي منها فهو جانب القيم الذي برز منذ اللحظة الأولى لوجود المجتمع المسلم.

وقد كرم الله الإنسان فلم يجعله يقهر على غير إرادة منه، بل جعله مخلوقا فعالا مريدا قادرا على اختيار أحد الطريقين؛ طريق الهدى أو طريق الضلال، وهو ما يصدقه منهج المسلمين العقلي والحضاري في بغداد والأندلس ومصر وحواضر الإسلام. وقد انهارت بعد ذلك الدولة العباسية وانهارت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد المسلمون بوحشية بالغة، وانمحى الإسلام من الوجود في تلك البقعة من الأرض، بسبب الانحراف عن النهج الإسلامي الصحيح.

وكان من أسباب انهيار الدولة العباسية، الترف الذي غرقت فيه القصور، ولعب الدخلاء بالسلطان، والدسائس والمؤامرات، وضعف القوة السياسية والعسكرية..
وقد أدى الاستبداد السياسي إلى ضمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المجال السياسي خاصة، وتحول الإسلام عند الناس إلى ممارسة فردية بعد تضاؤل الممارسة الجماعية، وكان التركيز التدريجي على الشعائر التعبدية على أنها هي الدين.

ومن آثار الانحراف في واقع الأمة في الفترة الأخيرة ما يلي:

  1. التخلف العقدي: ويقصد به الكاتب أن عقيدة المسلمين الآن على غير الصواب، فقد كانت لا إله إلا الله هي الأساس الراسخ والعامل المؤثر عند الجيل الذي تلقاها وآمن بها (وهو جيل الصحابة) فغير بها واقعا بشريا بأكمله، وأنشأ بدلا منه واقعا جديدا مختلفا عنه كل الاختلاف، ولكن جاء بعدهم أجيال أخذت تتخفف من التكاليف، فتخرجها رويدا رويدا من دائرة العبادة، وتضيق دائرة العبادة تدريجيا حتى تحصرها نهائيا في الشعائر التعبدية ولا زيادة. وقد مهد التخلف العقدي (ابتعاد الأمة عن العقيدة السليمة) للتخلف السلوكي (المعاصي التي ترتبط بالسلوك) من ناحية، وأخر علاجه من ناحية أخرى، فحين تكون العقيدة صحيحة، ويكون التخلف السلوكي ناشئا فقط عن التفلت البشري الطبيعي من التكاليف؛ فإن التذكير يكفي لعلاجه، أما حين يكون التخلف العقدي هو الداء؛ فإن التذكير وحده - بالصور المعتادة لا يكفي؛ لأنه لا يجد استجابته الطبيعية في القلب، ويحتاج الأمر إلى إبراء القلب ذاته مما ألم به من أمراض!
  2. التخلف العلمي والحضاري والاقتصادي والحربي والفكري والثقافي: فمن التخلف العقدي نشأت كل ألوان التخلف التي أصابت العالم الإسلامي، فكلها ألوان من التخلف ممسك بعضها برقاب بعض، ومؤد في النهاية إلى الانهيار.
  3. الغزو الصليبي: كانت الحملات الصليبية قديما وحديثا تستخدم وسائل حربية وفكرية وعلمية ورحلات استكشافية الهدف الأساس منها إضعاف قوة الإسلام، والقضاء على مظاهره بشتى الطرق الممكنة. 
  4. الغزو الفكري: ويقصد به الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، مما يتعلق بالعقيدة وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك. وقد بدأ الغزو الفكري الصليبي منذ قرون، مرورا بالحملة الفرنسية وجميع ما فعلته في مصر، وكان هدفه تغيير المجتمع المسلم، وزعزعة عقيدته، وقد خدم محمد علي أهداف الغزو الفكري ونقل مصر من الصبغة الإسلامية إلى صبغة أخرى مباينة لها فكريا واجتماعيا. وأما الاحتلال البريطاني فقد كان له آثار كبرى في الغزو الفكري، والتغير الثقافي للمجتمعات العربية والإسلامية. فغير الإنجليز في مناهج التعليم بما يتوافق مع أهدافهم الخبيثة، وأضعفوا دور الأزهر، وحاربوه. وظهر دور خطير لوسائل الإعلام في تثبيت وترسيخ دعائم الغزو الفكري، ومن تلك الوسائل: الكتاب والصحيفة والمسرح والسينما ثم الإذاعة والتلفزيون بعد ذلك، فقد قامت وسائل الإعلام وما تزال بدور فائق الخطورة في نشر الأفكار الهدامة للعقيدة والسلوك عند المسلمين، وما ذلك إلا صورة من صور الغزو الفكري. وأبرز الأمثلة على ذلك ما قام به قاسم أمين، من دعوته  إلى تحرير المرأة في كتابيه (تحرير المرأة)، و(المرأة الجديدة)، فقد نشر سمومه في المجتمع كله، وكانت النتيجة سقوط الحجاب تدريجيا.

وقد أوصلت الحرية المطلقة والتحلل الأخلاقي في أوربا إلى كوارث اجتماعية منها: تفكك الأسرة وتحلل المجتمع وشقاء الرجل والمرأة كيلهما، وتشرد الأطفال ، وجنوح الأحداث ، وانتشار الشذوذ والأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة. يرى الكاتب أن الجامعة المصرية ؛جامعة القاهرة  -كما كانت تسمى في ذلك الحين - لم تنشأ لترعى القيم الإسلامية ولا لترعى تنشئة الشبان والفتيات تنشئة إسلامية؛ وإنما كانت قد أنشئت لتكون منبرا "حرا" يهاجم منه الدين والأخلاق والتقاليد مهاجمة شفوية وعملية.

وقد حاول المفكرون في العصر الحديث، في الصحافة والإعلام والجامعات أن يبثوا فكرة أن الإسلام كان صالحا للبيئة البدوية التي نشأ فيها، ولكنه لا يصلح للبيئة المتحضرة الموجودة اليوم! وأن الإسلام يظلم المرأة، ويجعلها قعيدة البيت، مستعبدة للرجل، مهدرة الإنسانية مهضومة الحقوق! وأن الإسلام نظام ديمقراطي! ليس فيه تقرير لحقوق الإنسان! وأن الإسلام ليس له نظام حكم! إنما هو مجموعة من التوجيهات الأخلاقية ليس غير! وأن الإسلام نظام رجعي لأنه يحرم الربا، والربا هو العمود الذي يدور عليه الاقتصاد الصناعي المتطور، والإسلام . . والإسلام . . والإسلام ... إلى غير ذلك من الدعايات الخبيثة المبثوثة، وكلها مزاعم باطلة هدفها تشويه الإسلام، واجتثاثه من نفوس أتباعه.

إن أوروبا الصليبية تكره الإسلام بشكل عام، ولكنها تكره الدولة العثمانية بصفة خاصة؛ لأنها هي التي توغلت في أوروبا، وضمت منها مساحات شاسعة إلى الدولة الإسلامية، وأخذت من أهلها عشرات الملايين دخلوا في الإسلام.

إن " الأدباء" و "المفكرين" الذين تعلموا اللغات الأجنبية قد وقعوا ولا شك على ثروة أدبية وفكرية في اللغات التي تعلموها، فحدث انبهار ضخم عند هؤلاء "الأدباء" و "المفكرين" بالفكر الأوروبي والثقافة الأوروبية. وعلى الرغم من وجود أشياء لها قيمة تستحق الاطلاع عليها في الفكر الأوربي ، ومزايا منها اتخاذ "المنهج العلمي" في البحث، والصبر والجلد على البحث، وعبقرية التنظيم، واتخاذ التجربة أساسا للبحث، إلا أن قاعدة هذا الفكر منحرفة، فيها شرود عن الله، ومعاندة لكل ما يأتي من عند الله.

وبالنسبة لعالم السياسية كان الأمر أشد خطورة؛ فقد حاول نابليون من قبل تنحية الشريعة الإسلامية، ووضع "قانون نابليون" بدلا عنها. ولما رفض المصريون ذلك، وقاوموا الاحتلال الفرنسي وطردوا الفرنسيين؛ جاء الإنجليز بعدهم عام ألف وثمانمئة واثنين وثمانين ميلاديا (1882م) وقد نحوا الشريعة الإسلامية كذلك، وحكموا بدلا عنها قانون نابليون، دون ثورة من جانب الشعب. وهنا يبرز عجب الإنسان من تبدل الموقف تجاه الأمر الواحد ما بين عامي ألف وسبعمئة وثمانية وتسعين ميلاديا (1798م) (في زمن الحملة الفرنسية) وعام 1882م ، وسبب ذلك أن ثمانين سنة من الزحزحة المستمرة عن الإسلام كان لها أثر ملموس في عالم الواقع.


واقعنا المُعاصر
واقعنا المُعاصر
محمد قطب
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00