من أوامر الله لهذه الأمة تحقيق العدل الرباني، وربط هذا الأمر بالعقيدة في الله، وجعله خالصا لله يجعله سمة من سمات هذه الأمة أو لازما من لوازم وجودها؛ ليهيئ لها القيام بدورها في قيادة البشرية وريادتها. إن ميزان العدل لا يميله حب ولا بغض . . ولا تميله عصبية ولا قرابة ولا مصلحة أرضية، بل إنه لا يميل حتى إلى جانب المشاركين في العقيدة على حساب المخالفين لها ولو كانوا في مجموعهم ظالمين!
وقد كانت هناك انحرافات في العصر العباسي، أبرزها الترف الذي أصاب الحياة بتأثير المال المتدفق من كل اتجاه، وقد أصاب الترف الكثير من الممالك الإسلامية حيث تروي لنا كتب التاريخ المزيد من صور الترف والبذخ وإنفاق المال في حفلات الزواج بإسراف.
ومن أبرز سمات هذا الدين دعوته للأخلاق السامية في كل تصرفات الإنسان، حيث ربط بين الأخلاق وبين لا إله إلا الله!
ومن سمات أمة الإسلام الوفاء بالعهود والمواثيق، حيث أصبح خلقا لها تتميز به في وسط شعوب الأرض. فالعهد الذي يبرمه المسلم هو عهد معقود باسم الله، إنه جزء من الميثاق الذي يلتزم به المؤمن تجاه ربه.
والرغبة في التعلم والمعرفة رغبة فطرية أودعها الله لتكون إحدى أدوات الإنسان للقيام بعمارة الأرض، فالعلم أداة من أدوات عمارة الأرض والسعي وراء الرزق والقيام بدور الخلافة في الأرض. وقد جعل الله طلب العلم فريضة على الأمة، فاتجهت إلى طلبه وغيرت مجرى التاريخ، فقد بدأ المسلمون يحولون اتجاه البحث العلمي من المجال النظري الفلسفي، إلى المجال العلمي التجريبي، فالمسلمون هم الذين أسسوا المنهج التجريبي في البحث العلمي.
ويُراد بالحركة الحضارية الإسلامية الجانب المادي والتنظيمي منها، وهو الذي تأخر ظهوره عن الجيل الأول (وهو جيل الصحابة). أما الجانب المعنوي منها فهو جانب القيم الذي برز منذ اللحظة الأولى لوجود المجتمع المسلم.
وقد كرم الله الإنسان فلم يجعله يقهر على غير إرادة منه، بل جعله مخلوقا فعالا مريدا قادرا على اختيار أحد الطريقين؛ طريق الهدى أو طريق الضلال، وهو ما يصدقه منهج المسلمين العقلي والحضاري في بغداد والأندلس ومصر وحواضر الإسلام. وقد انهارت بعد ذلك الدولة العباسية وانهارت الدولة الإسلامية في الأندلس، وطرد المسلمون بوحشية بالغة، وانمحى الإسلام من الوجود في تلك البقعة من الأرض، بسبب الانحراف عن النهج الإسلامي الصحيح.
وكان من أسباب انهيار الدولة العباسية، الترف الذي غرقت فيه القصور، ولعب الدخلاء بالسلطان، والدسائس والمؤامرات، وضعف القوة السياسية والعسكرية..
وقد أدى الاستبداد السياسي إلى ضمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي المجال السياسي خاصة، وتحول الإسلام عند الناس إلى ممارسة فردية بعد تضاؤل الممارسة الجماعية، وكان التركيز التدريجي على الشعائر التعبدية على أنها هي الدين.
ومن آثار الانحراف في واقع الأمة في الفترة الأخيرة ما يلي:
وقد أوصلت الحرية المطلقة والتحلل الأخلاقي في أوربا إلى كوارث اجتماعية منها: تفكك الأسرة وتحلل المجتمع وشقاء الرجل والمرأة كيلهما، وتشرد الأطفال ، وجنوح الأحداث ، وانتشار الشذوذ والأمراض النفسية والعصبية والقلق والجنون والانتحار والخمر والمخدرات والجريمة. يرى الكاتب أن الجامعة المصرية ؛جامعة القاهرة -كما كانت تسمى في ذلك الحين - لم تنشأ لترعى القيم الإسلامية ولا لترعى تنشئة الشبان والفتيات تنشئة إسلامية؛ وإنما كانت قد أنشئت لتكون منبرا "حرا" يهاجم منه الدين والأخلاق والتقاليد مهاجمة شفوية وعملية.
وقد حاول المفكرون في العصر الحديث، في الصحافة والإعلام والجامعات أن يبثوا فكرة أن الإسلام كان صالحا للبيئة البدوية التي نشأ فيها، ولكنه لا يصلح للبيئة المتحضرة الموجودة اليوم! وأن الإسلام يظلم المرأة، ويجعلها قعيدة البيت، مستعبدة للرجل، مهدرة الإنسانية مهضومة الحقوق! وأن الإسلام نظام ديمقراطي! ليس فيه تقرير لحقوق الإنسان! وأن الإسلام ليس له نظام حكم! إنما هو مجموعة من التوجيهات الأخلاقية ليس غير! وأن الإسلام نظام رجعي لأنه يحرم الربا، والربا هو العمود الذي يدور عليه الاقتصاد الصناعي المتطور، والإسلام . . والإسلام . . والإسلام ... إلى غير ذلك من الدعايات الخبيثة المبثوثة، وكلها مزاعم باطلة هدفها تشويه الإسلام، واجتثاثه من نفوس أتباعه.
إن أوروبا الصليبية تكره الإسلام بشكل عام، ولكنها تكره الدولة العثمانية بصفة خاصة؛ لأنها هي التي توغلت في أوروبا، وضمت منها مساحات شاسعة إلى الدولة الإسلامية، وأخذت من أهلها عشرات الملايين دخلوا في الإسلام.
إن " الأدباء" و "المفكرين" الذين تعلموا اللغات الأجنبية قد وقعوا ولا شك على ثروة أدبية وفكرية في اللغات التي تعلموها، فحدث انبهار ضخم عند هؤلاء "الأدباء" و "المفكرين" بالفكر الأوروبي والثقافة الأوروبية. وعلى الرغم من وجود أشياء لها قيمة تستحق الاطلاع عليها في الفكر الأوربي ، ومزايا منها اتخاذ "المنهج العلمي" في البحث، والصبر والجلد على البحث، وعبقرية التنظيم، واتخاذ التجربة أساسا للبحث، إلا أن قاعدة هذا الفكر منحرفة، فيها شرود عن الله، ومعاندة لكل ما يأتي من عند الله.
وبالنسبة لعالم السياسية كان الأمر أشد خطورة؛ فقد حاول نابليون من قبل تنحية الشريعة الإسلامية، ووضع "قانون نابليون" بدلا عنها. ولما رفض المصريون ذلك، وقاوموا الاحتلال الفرنسي وطردوا الفرنسيين؛ جاء الإنجليز بعدهم عام ألف وثمانمئة واثنين وثمانين ميلاديا (1882م) وقد نحوا الشريعة الإسلامية كذلك، وحكموا بدلا عنها قانون نابليون، دون ثورة من جانب الشعب. وهنا يبرز عجب الإنسان من تبدل الموقف تجاه الأمر الواحد ما بين عامي ألف وسبعمئة وثمانية وتسعين ميلاديا (1798م) (في زمن الحملة الفرنسية) وعام 1882م ، وسبب ذلك أن ثمانين سنة من الزحزحة المستمرة عن الإسلام كان لها أثر ملموس في عالم الواقع.