العمل المنضبط

المفهوم الخامس: ثقافة الانضباط

 

إن بناء ثقافة الانضباط يعني مَلْءَ المنظمة بأشخاص يتخذون إجراءات منضبطة تتفق مع مفهوم القنفذ الذي تتبناه المنظمة. وفي الممارسة العملية، يتطلب هذا خمسة أمور:

1- بناء ثقافة الحرية والمسؤولية ضمن إطار محدد.

إن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة تبني نظاماً تشغيلياً متسقاً مع جوانب العمل، ثم تسمح للمديرين المحليين بالقيام بكل ما هو ضروري لجعل هذا النظام يعمل. وهذا يوفر المرونة والقدرة على التكيف دون فقدان السيطرة الشاملة. ومن خلال السماح للناس باتخاذ القرارات ضمن حدود نظام سليم، فإن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة تتوصل إلى هيكل أعمال قابل للتكرار والتوسع لأنه يمكن وضعه في العديد من المواقع بكفاءة.

2- وجود أشخاص يتمتعون بالانضباط الذاتي الكافي للذهاب إلى أقصى الحدود للوفاء بمسؤولياتهم.

إن الشركات التي انتقلت من كونها جيدة إلى عظيمة تُظهر استعدادًا لبذل كل مايَلْزَم لتصبح الأفضل في مجال عملها، مع الاستمرار في تحسين أدائها بشكل متواصل. وهي لا تحاول أن تكون الأفضل في كل شيء، بل تُركِز على تحديد نقاط قوتها الحقيقية والعمل عليها بعزيمة وإصرار. وبدلاً من السعي وراء استراتيجيات جديدة ومبهرة، تلتزم هذه الشركات بتحسين ما تُجيده باستمرار.

3- بناء ثقافة قوية بدلاً من الدكتاتورية

وهو ليس بالأمر السهل، فالشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة لا تمتلك رئيساً تنفيذياً طاغية ينجز الأمور من خلال قوة شخصيته. بل إنها تدرك أن الأمر الأكثر أهمية هو بناء ثقافة الانضباط التي ستستمر وتعمل بشكل جيد بعد انتهاء فترة أي فرد، حتى لو كان شخصاً بارزًا.

4. الالتزام الصارم بمفهوم القنفذ.

تركز الشركات الساعية للتحول من الجيد إلى العظيم بشكل حصري على المشاريع التي تنسجم مع مفهوم القنفذ الخاص بها. وهي تمتلك الانضباط الكافي للاستمرار في تطوير ما يدعم هذا المفهوم، مع تجنب كل ما يشتت تركيزها أو يخرج عن نطاقه.

ومن عجيب المفارقات أن هذا يَفتح في الواقع المزيد من الفرص للنمو مقارنة بمحاولة الشركة القيام بالعديد من المشاريع التجارية الأخرى غير ذات الصلة.

5. إنشاء قائمة "التوقُف عن القيام بذلك".

إن العديد من الشركات لديها قائمة "مهام"، وهي قوائم أُمنيات بالأشياء التي يجب القيام بها في المستقبل. أما الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة فتمتلك بدلاً من ذلك قوائم "توقُف عن القيام"، وهي قوائم بالأشياء التي ستتوقف الشركة عن القيام بها من أجل التركيز بشكل أفضل على مفهوم القنفذ.

وأفضل طريقة لإضفاء الطابع المؤسسي على هذه الفكرة هي تغيير عملية الميزانية السنوية، فبدلاً من معرفة الموارد التي يجب تخصيصها لكل نشاط، تحدد الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة، الأنشطة التي تدعم مفهوم القنفذ على أفضل وجه، وتحصل تلك الأنشطة وحدها على التمويل الكامل.

 

المفهوم السادس: مُسرّعات التكنولوجيا

إن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة لا تنجرف وراء صيحات التكنولوجيا الجديدة، بل إنها تقوم بربط التكنولوجيا بمفهوم القنفذ، أي أنها لن تتبنى أية تكنولوجيا إلا إذا كانت قادرة على تسريع أدائها في مجال تهتم به الشركة بالفعل، وتؤديه وفقاً للمعايير العالمية، ويُمكّنها من تحقيق أرباح في نفس الوقت.

إنّ الشركات العظيمة تتعامل مع التكنولوجيا بشكل مختلف، فهم:

1.يربطون أي تقنية جديدة بمفهوم القنفذ الخاص بهم.

إن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة تميل إلى أن تكون متطورة تقنياً ولكنها انتقائية للغاية في استخدامها للتكنولوجيا الجديدة.

والسؤال الأول الذي تطرحه هذه الشركات حول أي تكنولوجيا حديثة، يمكن التنبؤ به تماماً:

"هل هذه التكنولوجيا تتناسب مع مفهوم القنفذ الذي ننتهجه؟"

وإذا كانت الإجابة بنعم، فإنها تريد أن تكون رائدة في تطبيق هذه التكنولوجيا، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة تُدرك أن هذه التكنولوجيا غير ذات صلة، ويمكنها تجاهلها بأمان دون خسارة أي ميزة تنافسية.

2- سريعون في أن يصبحوا روادًا لأي تقنية لديها القدرة على تسريع تقدمهم.

عند العثور على تقنية تتماشى مع مفهوم القنفذ، لا تكتفي الشركات العظيمة بتطبيقها، بل تهدف إلى تسخيرها لتسريع أدائها. وتستخدم هذه الشركات التكنولوجيا كقوة دافعة للأمام لما تملكه بالفعل، بدلًا من محاولة بناء قوى دافعة جديدة من البداية.

3- يستخدمون التكنولوجيا في تطبيقات فريدة من نوعها.

بمجرد أن تعثر شركة عظيمة على تقنية جديدة ذات صلة، فإنها سرعان ما تصبح متعصبة ومبدعة في إيجاد طرق جديدة لتطبيق تلك التقنية. وسوف تتوصل إلى تطبيقات أصلية لهذه التقنية ربما لم يتصورها حتى المطورون أنفسهم، وذلك ببساطة لأنهم منغمسون للغاية في العمل حول مفهوم القنفذ الخاص بهم.

4. يحافظون على منظور متوازن فيما يتعلق بالتكنولوجيا.

وفي حين تنتبه وسائل الإعلام والثقافة الشعبية على نطاق واسع إلى التكنولوجيا الجديدة، فإن الشركات الجيدة إلى العظيمة تحافظ على وجهة نظر متوازنة للغاية. فهي لا تميل إلى النظر إلى التكنولوجيا باعتبارها العامل الأكثر أهمية في نجاحها. بل إنها لا تكرس حتى أجزاءٍ كبيرة من اهتمامها لمناقشتها. وبدلاً من ذلك، فإنها تشترك في سلسلة الأفكار التي تشير إلى أنّ التكنولوجيا، في حد ذاتها، لا يمكن أن تحول شركةً جيدة إلى شركةٍ عظيمة.

فالتكنولوجيا لا يمكن أن تحول المؤسسة إلى مؤسسة عظيمة، ولا يمكنها أن تمنع بحد ذاتها كارثة في طور التكوين. إن الأشخاص في الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة ينظرون إلى التكنولوجيا باعتبارها أداة مهمة فحسب، ولكنها ليست الحلّ السحريّ. وبالتالي، فإنّ الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة، يُصبح لديها كيفية استخدام التكنولوجيا، أكثر أهميةٍ بكثير مما إذا كانت أحدث التكنولوجيا ستُستَخدَم أم لا.

عندما ترتبط التكنولوجيا بمفهومِ قنفذ مقنع وواضح وتُستكمل بفهم عميق للأعمال، من المفترض أن تحدث أشياءٍ عظيمةٍ بوتيرة متسارعة. ومن ناحية أخرى، فإنّ حتى أفضل التكنولوجيا إذا تم تطبيقها في المجالات الخاطئة، فستؤدي عمومًا إلى تسريع سقوط المؤسسة أو الشركة. لذلك تُعتبر التكنولوجيا بمثابة أداةٍ ينبغي استخدامها بالشكل المناسب، ولكن فقط إذا كانت قابلة للتطبيق فيما يتعلق بمجال العمل.

إن الاستخدام الذكي للتكنولوجيا ليس سوى جزء واحد من عملية التحول التي تمر بها الشركات أثناء انتقالها من الجيد إلى العظيم. وعادة ما يكون التحول أشبه بعملية عضوية، حيث يَتْبَعُ التطوير تطويراً آخر. والواقع أن أفضل تشبيه لهذه العملية هو "عجلة الدفع". فمع تحرك الشركات باستمرار في الاتجاه الصحيح، تتراكم دورة ردود فعل إيجابية تضيف قوة الدفع التي تُحرك عجلة التوازن إلى الأمام. وعلى العكس من ذلك، إذا اتخذت الشركات قراراتٍ سيئةٍ باستمرار، فسوف تنشأ بمرور الوقت دورة ردود فعل سلبية، والتي تسمى بـ حَلَقةِ الهلاك، التي تعمل على تبديد قوة الدفع من عجلة التوازن.

لذا، فإن معظم التحولات من الجيد إلى العظيم تكون تراكمية وليست دراماتيكية (أي لا تأتي فجأة).

وعادةً، لا يحدث تغييرًا شاملًا واحدًا يقود الشركة إلى العظمة. فبدلاً من ذلك، تظهر سلسلة متوقعة من التطورات الصغيرة، والتي يُسْهٍمُ كل منها في دفع التطوير في اتجاه ثابت على مدى فترة طويلة من الزمن.

وفي النهاية، تكتسب العجلة الدافعة ما يكفي من الدفع، لتمكين المؤسسة بأكملها من تخطي الحواجز السابقة، وتحقيق قفزات هائلة إلى الأمام.

ومع مرور الوقت، تتحول الشركات الجيدة، إلى شركاتٍ عظيمة.

 


من جيد إلى عظيم
من جيد إلى عظيم
جيم كولينز
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00