2- الفكر المنضبط

المفهوم الثالث: مواجهة الحقائق الواقعية

 

إن كل الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة تدرك أن تحقيق نتائج مذهلة لن يتحقق إلا إذا تمكنت من اتخاذ سلسلة من القرارات الجيدة والعمل على تنفيذها. وعلى هذا فإن الطريق إلى العظمة الحقيقية يبدأ بمواجهة الحقائق المحيطة بأي موقف، حتى لو كانت هذه الحقائق قاسية وغير مريحة لأولئك الذين يتولون مناصب قيادية. وتجد الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة أن الطريقة الوحيدة التي تجعل القرارات الذكية واضحة هي إذا كانت تحليلاتها مُشْبَعةٌ، وملونةٌ بحقائق الواقع.

ولإضفاء الواقعية على عملية اتخاذ القرار، تعمل الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة على خلق مناخ حيث يمكن سماع الحقيقة بوضوح وبشكلٍ لا لَبْسَ فيه. وهي تفعل ذلك باستخدام أربع ممارسات أساسية:

1. ابدأ بالأسئلة، وليس بالإجابات. إن العديد من قادة الأعمال مقتنعون تماماً بأنهم يعرفون الإجابة على كل موقف، ولا يريدون أن تزعجهم الحقائق. أما قادة الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة فيتخذون المسار المعاكس. فهم يبدأون في افتراض أنهم لا يعرفون ما هو مطلوب، ويستمرون في طرح الأسئلة إلى أن يتمكنوا من بناء صورة واضحة للواقع وتداعياته. وهم يطرحون أسئلة استقصائية على المسؤولين التنفيذيين الآخرين، ليس لمحاولة التلاعب بالإجابة أو إلقاء اللوم على الآخرين، بل لإخراج الواقع إلى السطح.

2- تزدهر الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة من خلال الحوار المكثف والنقاش الصاخب والمناقشات المثيرة. وبهذه الطريقة، يمكن اتخاذ قرار بشأن مسار العمل الذي يشعر الناس بالحماس تجاهه. وكثيراً ما يتصرف قادة هذه الشركات كمشرفين ووسطاء يضمنون استمرار المناقشة دون هوادة حتى يتم التوصل إلى إجماع، وهم يدركون أن أفضل القرارات تنشأ عادة من بيئة تحدث فيها مناقشات مكثفة وتشتعل فيها المعارك الداخلية.

3- إجراء عمليات التشريح من أجل التعلم، وليس لتوزيع اللوم على الآخرين. فالشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة سوف تظل ترتكب الأخطاء أثناء تقدمها إلى الأمام، ولكن ما يلفت الانتباه هنا هو حقيقة مفادها أن هذه الشركات لن تحاول إخفاء هذه الأخطاء، بل إن الأخطاء سوف تتحول إلى تجارب تعليمية، وسوف يكون الجميع حريصين على فهم الدروس المستفادة، ولا يدخل توزيع اللوم في هذا السياق.

4. تُركز الشركات التي تتحول من الجيد إلى العظيم على بناء آليات 'العَلَم الأحمر' التي تُحوّل المعلومات إلى حقائق لا يمكن تجاهلها. فالأمر لا يتعلق بامتلاك هذه الشركات قدرًا أكبر من المعلومات مقارنة بمنافسيها فحسب، بل بقدرتها الفائقة على إنشاء 'الأعلام الحمراء' كإشارات تحذيرية واضحة ودقيقة تُحوّل البيانات الخام إلى حقائق جوهرية. وبهذا النهج، تُوجّه هذه الشركات اهتمامها لما يهم حقًا، مع استبعاد كل الضوضاء في الخلفية.

من خلال مواجهة الحقائق في السوق بغض النظر عن مدى قسوتها، تتمكن الشركات التي تنتقل من جيد إلى عظيم من:

• وضع أنفسهم في موقف يسمح لهم بأن يصبحوا أقوى وأكثر مرونة، لأن الناس سوف يصبحون متحمسين لمواجهة قادة السوق وجهاً لوجه.

• توليد شعور حقيقي بالحماس، عندما يصبح التحدي المتمثل في القيام بشيء مستحيل واضحًا.

إرساء ثنائية نفسية، حيث يقبل الناس واقع السوق، ولكن في نفس الوقت يحافظون على إيمان لا يتزعزع بأن الشركة سوف تنتصر في النهاية، حتى لو استغرق الأمر سنوات عديدة لتحقيق ذلك.

تقليل جاذبية القادة الأقوياء، لأن حقائق السوق أصبحت أكثر أهمية من الطريقة التي يعتقد القادة أن السوق يجب أن يكون عليها.

السماح للقيادة الحقيقية بالظهور، لأن الناس سوف يصبحون مدفوعين للعمل بالحقائق، وليس برغبات القادة.

الحفاظ على التحفيز، فلا شيء يمكنه أن يحبط الناس أكثر من رفض مواجهة حقائق السوق.

 

المفهوم الرابع: مفهوم القنفذ

إن القنافذ حيوانات بسيطة نسبيا، فهي لا تعرف سوى أمر واحد كبير وتلتزم به، وتفعل الشركات العظيمة شيئًا مُشابهًا، فهي تلتزم باستمرار بالقيام بما تجيده على أفضل وجه وتتجنب الانشغال بمجالات عمل جديدة بعيدة عن كفاءاتها الأساسية.

في عالم الأعمال، من السهل جدًا تشتيت الانتباه إلى كل أنواع المجالات المتنوعة. وتُكافح الشركات التي تحولت من جيدة إلى عظيمة هذا الاتجاه بقوة، وتركز بدلاً من ذلك على تلك المشاريع التجارية التي تتقاطع مع 3 أبعاد رئيسية:

1- ما يمكن لشركتك أن تكون الأفضل في العالم فيه؟

إن كونك الأفضل في العالم لا يقتصر على امتلاك كفاءة أساسية، بل يتجاوز ذلك إلى تحديد الشيء الوحيد الذي تستطيع شركتك القيام به بشكل أفضل من أي مؤسسة أخرى. إن العديد من الشركات تتمتع بكفاءة عالية في عدد من المجالات، ولكن الشركات التي تنتقل من الجيد إلى العظيم، تحدد المجال الوحيد الذي لا يستطيع أي شخص آخر أن يضاهيها فيه، ثم تركز حصريًا عليه.

2- ما الذي يدير محركك الاقتصادي؟

أياً كان العامل الذي يدفع محركك الاقتصادي (مثل الربح لكل موظف أو الربح لكل زيارة عميلٍ أو الربح لكل وحدة سكنية محلية)، فهو العامل الذي يخلف التأثير الأعظم والأكثر استدامة على النتائج المالية للمنظمة بأكملها. ومن خلال التركيز على هذا العامل، تَضْمَن الشركات الجيدة إلى العظيمة الحصول على أقصى قدر من الاستفادة من جهودها التي تهدف إلى دفع المُحرك الاقتصادي للأمام.

3- ما شغف موظفوك الكبير؟

ما أنت شغوف به بشدة، هو أقوى حافز متاح. بعبارة أخرى، لا تحدد الشركات التي تنتقل من الجيد إلى العظيم ما يجب أن يكون موظفوها شغوفِين به، بل على العكس من ذلك تمامًا. تحاول هذه الشركات أن تفهم بشكل أفضل، ما يشعر موظفوها بالفعل بشغف شديد تجاهه، ثم تبحث عن مشاريع تتوافق مع ذلك الشغف، وعندما يحين وقت التوظيف، يتم العثور على أشخاص لديهم مجالات اهتمام مماثلة.

إن الشركات التي تتحول من جيدة إلى عظيمة تحدد أهدافها واستراتيجياتها على أساس فهم ما يكمن داخل مفهومها القنفذي، وتتجاهل كل ما لا يكمن داخله. وهذا يتناقض بشكل واضح مع الشركات التقليدية التي تختار المشاريع على أساس التفاخر أو تفضيلات المديرين التنفيذيين.

ولتفعيل عملية القنفذ، تستخدم العديد من الشركات التي تحولت من شركة جيدة إلى شركة عظيمة نهج "مجلس الأعمال".

مجلس الأعمال:

• هو مجموعة غير رسمية تتكون من كبار المسؤولين التنفيذيين في المنظمة، وعدد يتراوح من خمسة إلى اثني عشر شخصًا يتمتعون بوجهات نظر مختلفة، ولكن لديهم معرفة عميقة بجوانب العمل.

• يتم الاجتماع بانتظام (أسبوعيًا أو شهريًا أو ربع سنويًا) لمحاولة فهم ومناقشة أهم القضايا التي تواجه المنظمة بشكل أفضل.

• يتم المشاركة في حوار قوي ونقاش حول المشاريع الرئيسية التي تندرج ضمن مفهوم القنفذ.

• لا يحاول المجلس تحقيق الإجماع على الآراء، بل يركز بدلاً من ذلك على الفهم الذكي والتشريح والتحليل.

• يتحمل المدير التنفيذي المسؤولية النهائية عن اتخاذ القرارات.

• تُمنح اللجنة اسمًا حميدًا مثل "مجموعة التفكير الاستراتيجي" أو "مجموعة تحسين الأرباح على المدى الطويل" أو "المجلس التنفيذي".

إن أي شركة تتبنى نهج مجلس الأعمال ستكتسب، بمرور الوقت، عمق الفهم اللازم للتوصل إلى مفهوم فريد يُميزها عن غيرها. فالشركات التي تنتقل من الجيد إلى العظيم تمتلك جميعها هذا المفهوم المميز، واكتشافه—خصوصًا بعد فترة طويلة من التطوير—يُعدّ تجربة ملهمة ومثيرة.

 

 

 


من جيد إلى عظيم
من جيد إلى عظيم
جيم كولينز
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00