العملة الذهبية يمكن أن تضيع، وأن يجدها المرء بعد ضياعها، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة، ولا أن تستعيدها إذا مضت.
الاستعمار يعتبر من الوجهة التاريخية نكسة في التاريخ الإنساني، فأصوله تعود إلى روما، حيث وضعت المدنية الرومانية طابعها الاستعماري في سجل التاريخ، وقد أعقبهما العهد الإسلامي الذي كان في الواقع تجربة من نوع جديد في تاريخ علاقات الشعوب، لكن الحكم الإسلامي لم يستعمر بما في هذه الكلمة من معنى مادي منحط، بل كان فتحه للبلاد كجنوب فرنسا وإسبانيا وأفريقيا الشمالية، لا لاستغلالها، ولكن لضمها للحضارة الإسلامية في الشام أو العراق.
المستعمرون في الواقع يخدعون الضعفاء، ويخلقون في نفوسهم رهبة ووهما، ويزينون لهم احتلالهم إِذ يحاولون إطفاء نور النهار على الشعوب المتيقظة، ويدقون ساعات الليل عند غرة الفجر، وفي منتصف النهار، لترجع تلك الشعوب إلى العبودية والنوم.
المستعمرون يريدون منا انحطاطًا في الأخلاق كي تشيع الرذيلة بيننا، تلك الرذيلة التي تكون نفسية رجل ((القلة))، فيجدنا أسرع إلى محاربة الفضيلة، التي يحاول نشرها العلماء في بلادنا، وهو يريد تشتيت مجتمعنا وتفريق أفراده شيعا وأحزابًا، حتى يحل بهم الفشل في الناحية الأدبية، كما هم فاشلون في الناحية الاجتماعية، فيجدنا متفرقين بالسياسات الانتخابية، التي نصرف في سبيلها ما لدينا من مال وحكمة.
وهو يريد منا أن نكون أفرادا تغمرهم الأوساخ، ويظهر في تصرفاتهم الذوق القبيح، حتى نكون قطيعا محتقرا، يسلم نفسه للأوساخ والمخازي، فيجدنا ناشطين لتلبية دعوته.
القضية عندنا منوطة أولًا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته، من حيث نشعر أو لا نشعر، وما دام له سلطة خفية على توجيه الطاقة الاجتماعية عندنا، وتبديدها وتشتيتها على أيدينا، فلا رجاء في استقلال، ولا أمل في حرية، مهما كانت الأوضاع السياسية، وقد قال أحد المصلحين: "أَخْرِجُوا الْمُسْتَعْمِرَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضِكُمْ".
إن الاستعمار لا يتصرف في طاقتنا الاجتماعية إلا لأنه درس أوضاعنا النفسية دراسة عميقة، وأدرك منها موطن الضعف، فسخرنا لما يريد، كصواريخ موجهة، يصيب بها من يشاء، فنحن لا نتصور إلى أي حد يحتال لكي يجعل منا أبواقًا يتحدث فيها، وأقلامًا يكتب بها، إنه يسخرنا وأقلامنا لأغراضه، يسخرنا له، بعلمه، وجهلنا.