قبل خمسين عاما كنا نعرف مرضا واحدا يمكن علاجه، وهو الجهل والأمية، ولكننا اليوم أصبحنا نرى مرضا جديدا مستعصيا هو (التعالم). والصعوبة كل الصعوبة في مداواته.
وهكذا فقد أتيح لجيلنا أن يرى خلال النصف الأخير من هذا القرن ظهور نموذجين من الأفراد في مجتمعنا: حامل المرقعات ذي الثياب البالية، وحامل اللافتات العلمية. فإذا كنا ندرك بسهولة كيف نداوي المريض الأول، فإن مداواتنا للمريض الثاني لا سبيل إليها. لأن عقل هذا المريض لم يتعلم العلم ليصيره موجها وقائدًا ومنارا وسبيلا ومنهج حياة، بل ليجعله آلة للعيش، وسلما يصعد به إلى منصات الوظائف. وهكذا يصبح العلم مسخة وعملة زائفة، غير قابلة للصرف. وان هذا النوع من الجهل لأدهى وأمر من الجهل المطلق، لأن جاهل هذا النوع لا يقوم الأشياء بمعانيها ولا يفهم الكلمات بمقاصدها، وإنما بحسب حروفها، فهي تتساوى عنده إذا ما تساوت حروفها، وكلمة "لا" تساوي عنده "نعم" لو احتمل أن حروف الكلمتين متساوية.
إن روح الإسلام هي التي خلقت من عناصر متفرقة كالأنصار والمهاجرين أول مجتمع إسلامي، حتى كان الرجل في المجتمع الجديد يعرض على أخيه أن ينكحه من يختار من أزواجه، بعد أن يطلقها له، لكي يبني بذلك أسرة!!.
إن قوة التماسك الضرورية للمجتمع الإسلامي موجودة بكل وضوح في الإسلام، ولكن أي إسلام؟
الإسلام المتحرك في عقولنا، وسلوكنا، والمنبعث في صورة إسلام اجتماعي.
(الإطار الحضاري بكل محتوياته متصل بذوق الجمال، بل إن الجمال هو الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن نلاحظه في نفوسنا، وأن نتمثل في شوارعنا وبيوتنا ومقاهينا مسحة الجمال نفسها، التي يرسمها مخرج رواية في منظر سينمائي أو مسرحي).
وتقاس درجة رقي الدولة المعاصرة وتقدمها وأخلاقها بمستوى ونوعية الجماليات في هذه الدولة. كما أن انحطاط الأخلاق يتزامن بانحطاط الذوق الجمالي في كافة المجتمعات. كما أن المعمار وتشكيل الفضاء، واختيار الموقع عناصر تلعب أدوارا حاسمة في تشكيل نفسيات الأفراد داخل أي مجتمع.
ويتذمر المؤلف ويشكو من خلل في هذا المنطق في مجتمعاتنا. ويحدد هذا الخلل في مصطلح هو اللافاعلية حيث يؤكد:
"إننا نرى في حياتنا اليومية جانبًا كبيرًا من اللافاعلية في أعمالنا، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث والمحاولات الهازلة وإذا ما أردنا حصرًا لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادنا الضابط الذي يربط بين عمل وهدفه، بين سياسة ووسائلها، بين ثقافة ومثلها، بين فكرة وتحقيقها: فسياساتنا تجهل وسائلها، وثقافتنا لا تعرف مثلها العليا، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفى كل خطوة نخطوه".
يمثل افتقاد مجتمعاتنا للمنطق العملي، وللفاعلية مشكلة كبرى لم تعالج حتى الآن علاجا جديا. لذلك فإن أزمة الدولة والمجتمع لدينا تنبع من كونها تفتقد إلى الفاعلية، وإلى الدستور الخلقي، والذوق الجمالي، والمنطق العملي، والمنهجية العلمية في التعاطي مع قضايا التنمية وبخاصة تنمية الإنسان. وبذلك لا يناقش مالك بن نبي صراحة مشكلة الدولة، بل هو معنى بالشروط الحضارية للمجتمعات الإسلامية ككل. ورغم ذلك، فإنه يمكن لنا أن نستعمل توصيفه لمعالم وشروط الحضارة كأسس للدولة المعاصرة والمجتمع الحديث.
فالبلاد النائية التي تستورد منها المواد الأولية، ثم المصانع التي تحول فيها تلك المواد إلى سلع ومنتجات، ثم الأسواق التي تصرف فيها تلك السلع، كل ذلك قد جعل للمال دورا متسعا، يخرج عن نطاق استعمال الفرد الخاص ومحيطه، إلى محيط يتنقل فيه من بلد إلى بلد، مقيما لشبكة العلاقات الاقتصادية بين البلدان، ويصبح بذلك قوة ممولة، يطلق عليها " رأس المال".
توجيه رأس المال لا يتصل أولا بالكم، بل بالكيف، فإن همنا الأول أن تصبح كل قطعة مالية متحركة متنقلة تخلق معها العمل والنشاط، أما الكم فإن ذلك الدور الثاني، دور التوسع والشمول.
كانت مكة قبل الإسلام تسير أموالها حسبما يقتضيه الأسلوب الرأسمالي، فقريش لم تكن تملك من أموال الإنتاج الشيء الضخم كالعقارات والمصانع، غير أن قوافلها كانت تجوب الصحراء حاملة بضائع الشرق الأدنى، في رحلة الشتاء والصيف، وكانت قريش كلها تسهم في تزويد هذه الرحلة.
القضية إنما هي قضية منهج يحدد لنا تخطيطا مناسبا نبني عليه حياتنا الاقتصادية، ولا يكون فيه مكان لتركيز رؤوس الأموال في أيدي فئة قليلة، تستغل السواد الأكبر من الشعب، بل يجب أن يتوفر فيه إسهام الشعب، مهما كان فقيرا، وبذلك يتم التعادل بين طبقات المجتمع، وتنسجم مصلحة الجماعة مع مصلحة الفرد.