إنّ السيرة النبوية وسير الصحابة وتاريخهم من أقوى مصادر القوة الإيمانية والعاطفة الدينية، وهي تاريخ رجال جاءتهم دعوة الإسلام فآمنوا بها، وصدّقتها قلوبهم، ووضعوا أيديهم في يد الرسول صلوات الله وسلامه عليه، وهجروا راحاتهم، وغادروا أوطانهم، وبذلوا من أنفسهم وأموالهم، وآثروا الآخرة على الدنيا، حتى قامت دولة الإيمان والتوحيد والتقوى، ودخل النّاس في دين الله أفواجا.
وقد جمع هذا الكتاب من أخبار الصحابة وسيرهم وقصصهم وحكاياتهم ما يندر وجوده في كتابٍ واحد، لذلك جاء هذا الكتاب يُصّور عصر حياة الصحابة، بشكلٍ يعيش القارئ لأجله في محيط الإيمان والدعوة، والبطولة والفضيلة، والإخلاص والزهد.
قال تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: 110]، قال عمر بن الخطاب: "لو شاء الله لقال: «أنتم» فكنَّا كلُّنا، ولكن قال: «كُنتم» خاصّة في أَصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ومَنْ صنع مثل صنيعهم، كانوا خيرَ أمّة أُخرجَتْ للنَّاس".
قال ابن مسعود رضي الله عنه: "إِنَّ الله نَظر في قلوب العباد فاختار محمدًا، فبعثُه برسالته وانتخبهُ بعلمه. ثم نَظر في قلوب الناس بعده فاختار الله له أصحابًا، فجعلَهم أَنصارَ دينه ووُزراءَ نبيِّه، فما رآه المؤمنون حسنًا فهو حسنٌ، وما رآه المؤمنون قبيحًا، فهو عند الله قبيحٌ". وسُئل ابن عمر رضي الله عنهما، هل كان أَصحاب النبي يضحكون قال: "نعم، والإِيمانُ في قلوبهم أعظمُ من الجبال".
كيف كانت الدعوةُ إلى الله وإِلى رسولهِ أحَبَّ إلى النّبي وإلى الصحابة من كل شيءٍ، وكيف كانوا حريصين على أَن يهتديَ الناس لدين الله تعالى.
حب الدعوة والشغف بها
حرص النبي على إيمان جميع الناس: كان يحرصُ نبي الله على أن يؤمن جميع الناس ويُبايعونه على الهُدى، فأخبره الله تعالى في قوله ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: 105]، بأنّه لا يؤمن إلا من سبق له من السعادة في الذِكر الأول، وهو اللوح المحفوظ، وكذلك لا يضلُّ إلا من سبق له من الشقاء في الذِكر الأول. وقال تعالى له أيضًا: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 3]، وباخعٌ هنا تعني مُهلِك، أي قاتلٌ لنفسك حتى يؤمن الناس.
إنكار النّبي على أن تُترك الدعوة لله: بعدما جاءت قريش إلى أبي طالب وتحدثت معه، ذهب أبو طالب إلى رسول الله وقال له: "يا ابن أخي، إنّ قومَك قد جاءوني وقالوا كذا وكذا، فَأبقِ عليّ وعلى نفسك، ولا تُحمّلني من الأمر ما لا أُطيق أنا ولا أنت، فاكْفُف عن قومك ما يكرهون من قولك". فقال له رسول الله: "يا عمِّ، لو وُضعت الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركتُ هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أَهلِكَ في طلبه". ثم استعبر رسول الله وبكى.
قصة إسلام وَحشيَّ بن حرب: بعثَ رسولُ اللَّهِ إلى وحشيِّ بنِ حربٍ قاتلِ حمزةَ، يدعوهُ إلى الإسلامِ، فأرسلَ وَحشيّ إليْهِ: "يا محمَّدُ كيفَ تدعوني وأنتَ تزعمُ أنَّ من قتلَ أو أشرَكَ أو زنى يَلْقَ أَثَامًا، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا، وأنا صنعتُ ذلِكَ! فَهل تجدُ لي من رخصةٍ؟" فأنزلَ اللَّهُ تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70]. فقالَ وحشيٌّ: "يا مُحمّد، هذا شرطٌ شديدٌ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، فلَعلِّي لا أقدرُ على هذا". فأنزلَ اللَّهُ تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48] فقالَ وحشيٌّ: "يا مُحمّد، هذا أرى بعدَ مشيئةٍ فلا أدري هل يغفرُ لي أم لا، فَهل غيرُ هذا؟" فأنزلَ اللَّهُ تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحيم﴾. قالَ وحشيٌّ: هذا نعم، فأسْلمَ، فقالَ النَّاسُ: "يا رسولَ اللَّهِ، إنَّا أصبنا ما أصابَ وحشِيٌّ، قالَ: "هيَ للمسلمينَ عامَّةً".
الدعوة للأفراد والأشخاص
دعوة النّبي لعمر بن الخطاب: قال نبي الله: (اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَوْ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ.) فاستجاب الله دعوة رسوله لعمر بن الخطّاب. وقال عمر لأصحابه عن إسلامه: "أتُحبّون أن أُعلِّمكم أوّل إسلامي؟" قالوا: "نعم". فقال: "كنتُ من أشد الناس عداوةً على رسول الله، فَأتيت النّبي في دارٍ عند الصفا، فجلست بين يديه، فأخذ بمجمع قميصي ثم قال: "أسلِم يا ابن الخطاب. اللَّهُمَّ اهْدهِ"، فقلت: "أشهدُ أن لا إله إلا اللّه وأنّك رسُولُ اللّه". فكبَّر المُسلمون تكبيرة سُمعت في طُرق مكة.
دعوة النّبي لعليّ بن أبي طالب: رأى عليّ بن أبي طالب النّبي وزوجته السيدة خديجة يُصلّيان، فقال عليّ: "ما هذا يا محمد؟" فقال النبي: "دين الله الذي اصطَفى لنفسهِ وبَعَث به رُسله، فَأدعُوك إلى الله وحده، وإلى عبادته، وأن تَكفُر باللّاتِ والعُزّى"، فقال له عليّ: "هذا أمرٌ لم أَسمع به قبل اليوم، فلستُ بقاضٍ أمرًا حتّى أُحُدّثَ به أبا طالبٍ". فقال له: "يا عليّ، إذا لم تُسْلم فَاكْتُم". فمكث عليّ تلك الليلة، ثم إنّ الله أوقعَ في قلب عليّ الإسلام، فأصبح غاديًا إلى رسول الله حتى جاءهُ فقال: "ما عرضتَ علي يا محمد؟" فقال له: "تُشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شَريك له، وتكفر باللاّتِ والعُزّى، وتَبْرَأُ من الأنداد". ففعل عليّ وأسلم، وكتمَ إسلامُه ولم يُظهرهُ.
دعوة النّبي لضِمَاد: قَدِمَ ضِمَادٌ مَكَّةَ، وكان قد سَمِعَ سُفَهَاءَ مِن أَهْلِ مَكَّةَ يقولونَ: إنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقالَ: "أينَ هذا الرجل؟ لعَلَّ اللَّهَ أن يَشْفِيهُ علَى يَدَيَّ"، وحينما لقيه قال له: "إنِّي أَرْقِي مِن هذِه الرِّياحِ، وإنَّ اللَّهَ يَشْفِي علَى يَدَيَّ مَن شَاءَ، فَهَلُّم". فَقالَ رَسولُ الله: "إنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَن يَهْدِهِ اللَّهُ فلا مُضِلَّ له، وَمَن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، أَشْهَدُ أَنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له"، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَقالَ ضِمَاد: "والله لقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَما سَمِعْتُ مِثْلَ هؤلاء الكلمات، فَهَلُّم يَدَكَ أُبَايِعْكَ علَى الإسْلَامِ، فَبَايَعَهُ رَسولُ اللهِ عليه وعلى قومهِ.
دعوة النّبي لأفراد المُشركين مِمّن لم يُسلِم
دعوة النّبي لأبي جهل: قال نبي الله لأبي جهل: "يا أبا الحكم، هَلُمّ إلى الله وإلى رسُوله، أدعوك إلى الله"، فقال أبو جهل: "يا محمدُ، هل أنتَ مُنتهٍ عن سبّ آلهتنا؟ هل تُريد إلّا أن نَشهدَ أنّك قد بلّغتَ؟ فنحنُ نشهدُ أنْ قد بلّغتَ، فو الله لو أني أعلمُ أنّ ما تقول حق لاتبّعتُك". فانصرف النّبي، وأقبل أبو جهل على المُغيرة بن شعبة، فقال له: "والله إنّي لأعلمُ أنّ ما يقولُ حقٌ".
دعوة النّبي لأبي سُفيان وهند: قابل سُفيان بين حربٍ وهند بنت عُتبة رسول الله، وكان معهما مُعاوية يركب على حمارة، فقال أبو سفيان: "انزل يا معاوية، حتى يركب محمد"، فنزل عن الحمارة وركبها رسول الله. قال النّبي لسُفيان وهند: "والله لّتَمُوتُنّ ثم لَتُبْعَثُنّ، ثم لَيدْخُلنَّ المُحسن الجنّة والمُسيء النّار، وأنا أقولُ لكم بحقٍ وإنّكم لأول من أُنذِرْتُم". ونزل رسول الله عن الحمارة، فأقبلت هند على أبي سفيان، فقالت: "ألهذا السَاحر الكذّاب أنزلت ابني؟" فقال: "والله ما هو بساحرٍ، ولا كذابٍ".
عرض النّبي الدعوة على المَجَامِع
دعوة النّبي لعشيرته الأقربين: لمّا أنزلَ الله عز وجل قوله: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: 214]، أتى النّبي وصعد جبل الصفا ثم قال: "يَا صَبَاحَاهْ- وهي كلمة كان يقولها المستُغيث للتنبيه- "يَا بَنِي عبد المُطّلب، يا بني فِهْرٍ، يا بني كعبٍ، أَرَأَيْتُم لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلاً بِسَفْحِ هذَا الْجَبَلِ، تُريد أن تُغير عليكم، صدّقتموني؟" قالوا: "نعم"، قَالَ: "فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ". فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: "تَبّاً لَكَ سائر اليوم، أما دَعَوتنا إِلاَّ لِهذَا؟"، فأنزل الله تعالى قوله ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ إلى آخر سورة المَسَد.
عرض النّبي الدعوة في السَّفَر
دعوة النّبي لأعرابيٍ في سَفَر: قابل رسول الله أعرابي في سفر، فقال له رسول الله: "أين تُريد؟" فقال: "إلى أهلي"، قال النّبي: "هل لك في خير؟" قال: "وما هو؟ "قال: "تُشهد أنّ لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له، وأنّ محمدًا عبدُهُ ورسُوله"، فقال: هل من شاهدٍ على ما تقول؟ قال: "هذه الشجرة"، فدعاها رسول الله وهي على شاطئ الوادي فَأقبلتْ تَخُدُّ الأرض خَدًّا –أي تشقّها شقًا- فقامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثًا، فَشَهدتْ أنّه كما قال، ثم إنّها رَجَعت إلى منبِتها.
الدعوة إلى الله في القتال
ما قاتل النّبي حتى دعاهم إلى الله تعالى: عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: "ما قاتل رسول الله قومًا حتى دعاهم".
ردّ النّبي الذين سُبُوا في القتال بغير الدعوة إلى مأمنهم: أُتيَ رسول الله بِأُسَارَى من اللّاتِ والعُزَّى، فقال لهم: "هل دَعَوكُم إلى الإسلام؟"، فقالوا: "لا"، قال: "خَلُّوا سَبيلهُم حتى يَبْلغوا مَأمَنهُم".