الباب السادس: باب الجهاد

كيف كان النّبي وأصحابه يُجاهدون في سبيل الله ويَنْفِرون للدعوة إلى الله وإلى رسوله خِفافًا وثِقالًا؟

 

تَحريض النّبي وترغيبه على الجهاد وإنفاق الأموال

خُروج النبي يوم بدر واستشارته الصحابة وأقوالهم: استشار النبي مَخْرَجَهُ إِلى بدرٍ، فأشَار عليه أبو بكر، ثم استشارهم فأشَار عليه عُمر، ثم استشارهم فقال بعض الأنصار: "إياكم يُريد رسول الله يا معشر الأنصار". فقال بعض الأنصار: "|يا رسول الله، إذاً لا نقولُ كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: ﴿فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24] ولكن - والذي بعَثكَ بالحق - لو ضَرَبْت أكْبَادَهَا إلى بَركِ الغِمَاد –أي لو سارت الإبل لمنطقة بَرِك الغِماد في السعودية- لاتَّبعناك".

قصة تَبوك وما أنفَق الصحابة في ذلك من الأنفس والأموال: أَمرَ الله رسوله بالقيام بغزوة تَبوك بعد خروجهِ من الطائف بستة أشهر، وهي التي ذكَرَ الله في ساعةِ العُسرة، وذلك في حرٍّ شديد، وقد كثُر النفاق وكثُر أصحاب الصُّفَّة - والصُّفَّة بيتٌ كان لأهل الفَاقَة يجتمعون فيه - فتأتيهم صَدقة النبي والمسلمين. وعَمَدَ المُنافقون حين رأَوا الصدقات يتغَامزون، فإذا كانْت صدقةُ الرجل كثيرة تَغامزوا به وقالوا: مُرَاءِ، وإذا تصدّق رجلٌ بيسيرِ تَمرٍ من طاقتهِ، قالوا: هذا أحوجُ إلى ما جَاء به.

فلمّا أَزِفَ خُروجُ رسُول الله أكْثروا الاستئذان، وشَكَوا الحرّ، وخافوا الفِتنة إِن غزَوا، ويَحلفونَ بالله على الكَذِب، فجعل رسول الله يأذنُ لهم لا يدري ما في أنفسهم. وبَنى طائفةٌ منهم مسجد النِّفاق، وسُورة (بَرَاءَة) تَنزِلُ في ذلك أرسْالًا، ونَزلت فيها آيةٌ ليست فيها رُخصةٌ لقاعدٍ، فلمّا أنزل الله عزّ وجلّ: ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا﴾ [التوبة: 41]، اشتكى الضعيف الناصح لله ولرسوله، والمريض والفقير إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا الأمر لا رُخصة فيه، بينما تخلَّف رجال غير مستيقنين أي بلا عُذر وهم المنافقون- ولا ذوي علَّة.

وأرجَفَ المنافقُون في المدينة بكل خبرٍ سُوء، فإذا بلغهم أنَّ المسلمين أصابهم جَهْدٌ وبَلاءٌ تبَاشروا به وفَرحُوا وقالوا: قد كنَّا نعلم ذلك ونُحذِّر منه، وإذا أُخبروا بسلامةٍ منهم وخيرٍ حَزنوا. ولم تزل سورة (براءة) تَنزل حتى ظنَّ الناس بالمؤمنين الظنون، وأشفقوا ألا يَنفلت منهم كبيرٌ ولا صغيرٌ أذْنَب في شأنِ التوبةِ ذنبًا، إلا أُنزل فيه أمرُ بَلاءٍ حتى نّزلِت السُورة بالكامل.

 

ما قبل وفاة النّبي وما بعدها

 بعثُ أُسامة بن زيد: أمَر النّبي أُسامة بن زيد أن يُغِير على أهلِ أُبْنَى –ويُقال أنّها بين البلقاء وفلسطين- وقال النّبي لأسامة: "امضِ على اسم الله". وانتُدب في هذه الغزوة جميع المُهاجرين الأوّلين، فقال رجالٌ من المُهاجرين: "يُستعمَل هذا الغُلام على المُهاجرين الأوّلين"، فغضب رسول الله غضبًا شديدًا حينما سمع بذلك القول، وصعد المِنبر ثم قال: "أمّا بعدُ أيّها النّاس، فما مقالةٌ بلغتني عن بعضكم في تَأمِيري أسامة؟ فو الله لئن طَعَنتُم في إمَارتي أُسامة، لقد طَعنتُم في إمارتي أباهُ من قبله. وايْمُ اللهِ، إنْ كان للإِمارة لَخَليقٌ، وإنَّ ابنهُ من بعدِه لَخَليقٌ بالإِمَارة، وإِنْ كان لأحبَّ الناس إِليّ، وإِنَّ هذا لمن أحبَّ الناس إليّ، فاستوصُوا به خيرًا، فإنّه من خِياركُم".

وَفاة الرسول وإصرار أبي بكر على بعثِ أُسامة: تُوفيّ رسول الله حين زاغت الشمس يوم الإِثنين الثاني عشر من ربيع الأول. فلما بلغ العربَ وفاةُ رسول الله وارتدّ من ارتدّ منها عن الإِسلام؛ قال أبو بكر لأسامة: "انْفُذ في وَجْهِك الذي وجَّهك فيهِ رسول الله". وأخذ الناس بالخروج وعسكروا في موضعهم الأول، وخرج بُرَيدة باللواء حتى انتهى إلى معسكرهم الأول. فشقَّ ذلك على كبار المُهاجرين الأوَّلين، ودخل بعضهم على أبي بكر، وحاولوا إقناعه بأن يؤخّر بعثُ أُسامة، وألا يقوم بتفريق المُسلمين في هذه الفترة الحَرجة بعد وفاة نبي الله، إلا أنّ أبو بكر قال لهم: "والذي نَفسي بيده، لو ظننتُ أنَّ السِباع تأكلني بالمدينة لأنفذتُ هذا البَعْث." أرسل أبو بكر بعدها إلى النَفَر من المُهاجرين الذين كانوا تكلموا في إمارة أُسامة، فغلّظ عليهم وأخذهم بالخروج، فلم يتخلّف إنسانٌ واحِد.

 

إخلاص النية في الجهاد في سبيل الله

لا أجر لمن يريد الدنيا والذِكر: جاء رجلٌ إلى رسول الله فقال: "أرأيت رجلًا غَزا يلتمسُ الأجر والذِكْر، ما له؟" فقال رسول: "لا شيء له"، وأعادها ثلاث مرات، يقول رسول الله: "لا شيء له"، ثم قال: "إنَّ الله لا يقْبَل من العمل إلا ما كان خالصًا وابتُغي به وجهُه".

 

تمنّي الشهادة والدعاء لها

تمنّي نبيّ الله الشهادة: قال رسول الله: "والذي نَفسِي بيدهِ، لولا أنَّ رجالًا من المؤمنين لا تطيبُ أنفسهم أن يتخلّفوا عني، ولا أجد ما أَحْمِلُهُم عليهِ؛ ما تخلَّفتُ عن سَريّةٍ تغزو في سبيلِ الله. والذي نَفسي بيدهِ، لوددتُ أنِّي أُقتَل في سبيل الله ثم أُحيا، ثم أُقتَل ثم أُحيا، ثم أُقتَل ثم أُحيا. ثم أُقتَل".

رغبةُ عمّار بن ياسرٍ في الشهادة: قال عمار بن ياسر رضي بصِفِّين في اليوم الذي مات فيه: "إنّي لقيتُ الجبّار، وتزوجت الُحور العين. اليومَ نلقَى الأحبّة، مُحمدًا وحِزْبَهُ. عَهِدَ إليّ رسول اللهُ أنَّ آخِر زَادِكَ من الدُنيا ضَيَاحٌ من لبنٍ".

 

شَجاعة الصحَابة

شجَاعة عمر بن الخطّاب: عن علي بن أبي طالب قال: "ما علمتُ أحدًا هَاجر إلا مُختفيًا إلا عُمرَ بن الخطاب، فإنّه لما همّ بالهجرة تَقلّد سَيفهُ، وتنكّبَ قَوسهُ، وانْتَضَى –أي أخْذَ- في يده أسهُمًا، وأتى الكعبة - وأشرافُ قُريش بفِنائها - ثم قال: "شَاهت- أي قَبِحْت- الوجوه، من أرادَ أن تثْكلَه أُمّهُ، ويُؤتَم وَلَدُهُ، وتُرْمِل زَوجَتهُ؛ فَليلْقِني وراء هذا الوادي". فما تَبعهُ منهُم أحد.

شَجاعة خالد بن الوليد: قال خالد بن الوليد: "لقد دُقَّ –أي كُسر- في يَدي يوم مُؤتة تِسعةُ أسْياف، فما بَقي في يَدي إلا صَفيحة يمانية"، ومعناها السيف العريض.

 

قِتالُ النّساء للجهاد في سبيلِ الله

قِتال أمّ عُمارة يوم أُحُدٍ: قال نّبي الله عن أمّ عُمارة: "ما التفتُّ يوم أُحدٍ يَمينًا ولا شِمَالًا إلا وأراها تُقاتِلُ دُوني".

شَجَاعة أُمّ سُليم يوم حُنين: اتّخذَت أُمّ سُليمٍ يوم حُنَين خنجرًا، فرآها أبو طلحة، فقال يا رسول الله: "هذه أُمّ سُلَيم معها خنجر"، فقال لها رسول الله "ما هذا الخنجر؟" فقالت: "اتخذته إنْ دنَا منّي أحدٌ من المُشركِين بَقَرتُ به بَطنَهُ". فجعل رسول الله يضحك.

قتلُ أسماء بنت يَزيد تِسعَة يوم اليَرمُوك: قَتلتْ أسماء بنت يَزيد بن السَّكَنِ، بنت عمّ معاذ بن جبل، يوم اليَرمُوك تِسعَة من الرّوم بعمُودِ فُسطاطٍ.


حياة الصحابة - الجزء الأول
حياة الصحابة - الجزء الأول
محمد يوسف الكاندهلوي
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00