الباب الثالث: بَابْ تَحمّل الشَدائد

كيف كان النبي وأصحابه يتحمّلون الشدائد والأذى، إِظهاراً للدين. وكيف هانت عليهم نفوسهم في الله لإِعلاء كلمته.

 

تَحمُّل الشدائد

قول المقداد بن الأسود في الحال التي بُعث عليها النبي: مرّ بالمِقداد رجلٌ، فقال: "طُوبى لهاتين العينين اللتين رأتا رسول الله، والله لودِدنا أنّا رأينا ما رأيتَ، وشَهِدنَا ما شهِدتَّ، فاستمَعْتُ، فجعلتُ أعجبُ، ما قال إلا خيرًا". ثم أقبل عليه، فقال: "ما يحملُ أحدَكُم على أن يتمنّى مَحضَرًا غيّبه الله عزّ وجلّ عنهُ، لا يدري لو شَهِدهُ كيف كان يكون فيه؟ والله، لقد حضرَ رسول الله أقوامٌ -كبَّهم الله عزّ وجلّ على منَاخِرهم في جهنّم - لم يُجيبوه ولم يُصدِّقوه، أولا تحمدون الله إذ أخرجكم الله عزّ وجلّ لا تعرفون إِلا ربَّكم، مُصدِّقين بما جاء به نبيكم وقد كُفيتم البلاءَ بغيركم؟".

 

تَحمّل النّبي الشدائد والأذى في الدعوة إلى الله

ما لقيهُ النّبي من الأذى من قُريش: بينما النبي يصلي في حِجْر الكعبة، إذ أقبل عليه عقبة بن أبي مُعَيط، فوضع ثوبهُ على عُنقهِ فَخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبهِ ودفعه عن النبي، وقال: ﴿فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِى نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٢٨].

عزم أبي جهل على إيذاء النّبي وكيف أخزاه الله: عن العباس قال: "كنت يومًا في المسجد فأقبل أبو جهل، فقال: "إِنَّ لله عليَّ إنْ رأيتُ محمدًا ساجدًا أنْ أَطَأ على رقبتهِ"، فخرجتُ على رسول الله حتى دخلت عليه فأخبرته بقول أبي جهل، فخرج غضبانَ حتى جاء المسجد، فعجَّل أن يدخل من الباب فاقتحم الحائط. فقلتُ: "هذا يومُ شرّ". فاتَّزرت ثم اتَّبعته، فدخل رسول الله فقرأ: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِى خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ [العَلَق: 1-2]. فلما بلغ شأن أبي جهل: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّءاهُ اسْتَغْنَى﴾ [العَلَق: 6-7]، فقال إنسانٌ لأبي جهل: "يا أبا الحكم، هذا مُحمدٌ"، فقال أبو جهل: "ألا ترونَ ما أرى؟ واللهِ، لقد سُدَّ أفقُ السماء عليّ" –وفي رواية أخرى قال: "إنّ بيني وبينه خندقًا من النار وهولًا وأجنحة"- فلما بلغ رسول الله آخر السورة سَجَد.

إيذاء النّبي من جارَية أبي لهب، وعقبة بن أبي معيط: عن ربيعة بن عُبيد الدِيلي قال: "ما أسمعكم تقولون إن قريشًا كانت تنال من رسول الله، فإنِّي أكثر ما رأيت أنَّ منزلهُ كان بين منزل أبي لهب وعُقبة بن أبي مُعَيط؛ وكان ينقلب إلى بيته فيجد الأرحَام والدِّماء والأنحات –أي الرديء من كل شيء- قد نُصبت على بابه، فيُنحِّي ذلك بِسِيَة قوسهِ، ويقول: "بِئس الجوار ُهذا يا مَعشر قُريش".

ما لقيّ النّبي من الأذى يوم أُحدٍ: كُسِرتْ رَباعِية النّبي يوم أُحد وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسلِتُ الدمَ عن وجههِ ويقول: "كيف يُفلحُ قومٌ شَجُّوا نبيهُم، وكسروا رَبَاعيته، وهو يدعوهم إلى الله؟"، فَنَزل: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الاْمْرِ شَيءٌ﴾ [آل عمران: 128].

 

تَحمّل الصحابة الشدائِد والأذى في الدعوة إلى الله

تَحمّل أبي بكر الصدّيق الشدائد: لمّا اجتمع أصحاب النبي -وكانوا ثمانية وثلاثين رجلًا- ألحّ أبو بكر على رسول الله في الظُهور، فقال: "يا أبا بكر إنَّا قليل". فلم يزل أبو بكر يلحّ حتى ظهر رسول الله، وتفرّق المسلمون في نواحي المسجد كل رجلٍ في عشيرته. وقام أبو بكر في الناس خطيبًا ورسول الله جالسٌ، فكان أول خَطيبٍ دعا إلى الله وإلى رسُوله. فثَار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين، فضُربوا في نواحي المسجد ضربًا شديدًا، ووُطِئ أبو بكر – أي داسوا عليه بأقدامهم- وضُرب ضربًا شديدًا. ودنا منه الفاسِقُ عُتبة بن رَبيعة، فجعل يَضربُهُ بِنعلَينِ مَخصُوفَتينِ –أي مُطبقتين غليظين- ويحرِّفهمَا لوجههِ، ونَزَا –أي وَثَبَ- على بطنِ أبي بكر حتى ما يُعرَف وَجْهُه من أنفهِ، حتى جاء بنو تَيْم وحملوه إلى بيتهِ وهم لا يُشكّون في موتهِ.

تَحمّل الزُبير بن العوّام الشدائد: أسْلَم الزُبير بن العوّام وهو ابن ثمَانِ سنين، وهاجر وهو ابن ثَماني عشرة سَنة، وكان عم الزُبير يعلِّق الزُبير في حَصِير ويدخِّن عليه بالنار وهو يقول: "ارجع إلى الكُفر"، فيقول الزُبير: "لا أكفر أبدًا". وفي رواية عن أحد الشيوخ، أنّه صَحِبَ الزُبير بن العوّام في بعض أسفَارِه، فأصابتهُ جَنَابةٌ بأرضٍ قفرٍ، فقال: "استُرني"، فسَترتُهُ، فحانت مني إليه التفاتةٌ فرأيتهُ مُجدَّعًا بالسيوف. قلت: "والله لقد رأيتُ بكَ آثارًا ما رأيتُها بأحدٍ قط". قال: "وقد رأيت ذلك؟" قلت: "نعم"، قال: "أما والله، ما منها جِراحةٌ إلا مع رسول الله وفي سبيل الله".

تَحمّل بلال بن ربّاح المؤذّن عنه الشدائد: أول من أظهر الإِسلام سبعة: رسول الله، وأبو بكر، وعمَّار وأمه سُميَّة، وصُهيب، وبِلال؛ والمِقداد، فأما رسول الله فمنعهُ الله بعمِّه. وأما أبو بكر فمنعهُ الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشُركون، فَألبسوهم أدْرُع الحديدِ وصَهَروهُم في الشمسِ، فما منهم من أحدٍ إلا وقد وَاتَاهُم –أي طَاوعهم- على ما أرادوا إلا بلالًا، فإنه هانت عليه نفسه في الله. وهانَ على قومه، فجعلوا يطُوفون به في شِعاب مكّة، وهو يقول: "أحَدٌ، أحَد".

وكان أُميّة بن خَلَف إذا حمَيَت ِالظَّهِيرة، فيَطرَحُه على ظَهرهِ في بَطْحاء مكّة _أي الأرض التي بها الحَصَى- ثم يأمرُ بالصَخرة العظيمة فتُوضَع على صَدرهِ، ثم يقول له: "لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللاّتَ والعُزّى. فيقول: - وهو في ذلك البلاء – "أُحَدٌ، أُحَد".

سُميّة أم عمّار أول شهيدٍ في الإِسلام: مرّ رسول الله بياسرٍ وعمّارٍ وأم عمّارٍ وهو يُؤذَون في الله تعالى، فقال لهم: "صبراً يا آل ياسر، صبراً يا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنة". وكانت أُمّ عمّار، سُميّة، أول شهيدٍ في الإسلام، فقد طعنها أبو جهل بحربةٍ في قُبُلها.

 

تَحمّل الجُوع في الدعوة إلى اللهِ رسوله

تحمّل النّبي الجوع: عن أبي هريرة قال: "دخلتُ على النبي وهو يصلِّي جالسًا، فقلتُ: "يا رسول الله، أراك تصلِّي جالساً فما أصابك؟" قال: "الجوع، يا أبا هريرة" فبكيتُ. فقال: "لا تبكِ يا أبا هريرة، فإنَّ شِدّة الحساب يوم القيامة لا تُصيب الجائع إِذا احتسَب في دار الدنيا".

وضْع النّبي وصحابته الحَجَر على بُطونِهم من الجوع: قال أبي طَلحة: "شَكَونا إلى رسول الله الجوع، ورَفعنا ثيابنا عن حَجَرٍ حَجَرٍ على بُطوننا؛ فرَفع رسول الله عن حَجرَين".

وقوع بعض الصحابة من قيامهم في الصلاة في الجوع والضعف: كان رسول الله إذا صلَّى بالنّاس، يخرُّ رجالٌ من قامتهم في الصلاة من الخَصَاصة، أي من الجوع، حتى يقول الأعراب: "هؤلاء مَجانين". فإذا صلّى رسول الله انصرف إليهم، فقال: "لو تَعلمون ما لكُم عند الله لَأحببتُم أن تزدادوا فَاقةً وحَاجة".

 

تَحمّل شدّة العَطَشِ في الدعوة إلى الله

ما أصاب الصحابة من شدّة العطش في غزوة تَبُوك: قال عُمر بن الخطّاب: "خَرجنا إلى تَبوك في قَيْظٍ شديدٍ، فنَزلنا منزلًا وأصابنا فيه عطشٌ حتى ظننا أنَّ رِقَابنا سَتنقطِعُ، حتى إنْ كانَ أحَدُنا ليَذهبُ فيلتمِس الرَّحْل، فلا يرجعُ حتى يظنّ أنَّ رقبته سَتنقَطِع، حتى إنَّ الرجَل لينْحَر بَعيرهُ فيعتصِر فَرْثَه فيشْربُهُ، ثمّ يجعلُ ما بَقِيَ على كَبِدهِ. فقال أبو بكر الصديق: "يا رسول الله، إنّ الله قد عوَّدك في الدعاء خيرًا، فادْعُ الله لنا". فقال: "أو تحبّ ذلك؟" قال: "نعم". فَرفعَ يديهِ نحو السَماء فلم يُرجعهما حتى قَالَتِ السَماء فأطلّتْ –أي أمطرت مطرًا خفيفًا- ثم سَكَبتْ –أي أمطرت بكثرة-، فملأوا ما مَعهم."

 

 

 


حياة الصحابة - الجزء الأول
حياة الصحابة - الجزء الأول
محمد يوسف الكاندهلوي
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00