كيف خرج الصحابة عن الشهوات النفسانية من الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشائر والأموال والتجارات والمساكن، وتعلقوا بحبِّ الله وحبِّ رسوله وحبِّ من انتسب إليهما من المسلمين، وأكرموا من انتسب إلى النسبة المحمدية.
محبَّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في أصحابِهِ: عن أنسٍ أنّ رجلًا سأل رسول الله ﷺ متى الساعة؟ قال: «وما أعدَدتَّ لها؟» قال: لا شيء إلّا أنّي أحبُّ الله ورسوله ﷺ. قال: «أنتَ مع مَن أحبَبْتَ». قال أنسٌ: فأنا أحبُّ النبيّ ﷺ وأبا بكرٍ وعُمر رضي الله عنهما وأرجو أن أكون معهم بحُبّي إيّاهم.
إيثار حِبِّه صلّى الله عليه وآله وسلّم على حِبِّهم: عن أنسٍ في قصة إسلام أبي قُحافَة قال: فلمّا مدَّ يده يُبايعُه بكى أبو بكرٍ فقال النبيّ ﷺ: «ما يُبكيك؟» قال: لأنْ تكون يدُ عَمِّكَ مكان يده ويُسْلِمَ ويُقرَّ الله عينكَ أحبُّ إليّ من أن يكون.
توقيرُ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم وإجلالُهُ: عن أنسٍ أنّ رسول الله ﷺ كان يخرج على أصحابه من المهاجرين والأنصار وهم جُلوس، وفيهم أبو بكر وعُمر رضي الله عنهما فلا يرفع أحدٌ منهم بصرَه إلّا أبو بكرٍ وعُمر فإنهما كانا ينظران إليه وينظر إليهما، ويبتسمان إليه ويبتسم إليهما.
وداعُهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم: لمّا دنى الفِراق من نبيّ الله ﷺ جمع أصحابه في بيت عائشة، ونظر إليهم فدمعتْ عيناه ثم قال: «مرحبًا بكم! وحيّاكم وحفِظكم الله! آواكم الله! ونصركم الله! رفعكم الله! هداكم الله! رزقكم الله! وفّقكم الله! سلَّمكم الله! قبِلَكم الله! أوصِيكُم بتقوى الله! وأوصِى الله بكم! أستخلِفه عليكم! إنّي لكم نذيرٌ مبينٌ أن لا تعلُوا على الله في عبادِه وبلادِه! فإنَّ الله قال لي ولكم: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ} [القصص: 83]، ثم قال: المُنقَلبُ إلى الله! وإلى سِدرَة المُنتهى! وإلى جنة المأوى! إلى الكأسِ الأوفى! والرّفيق الأعلى!»
كيفية الصلاة عليه صلّى الله عليه وآله وسلّم: عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: لمّا مات رسول الله ﷺ أُدْخِل الرّجال فصلُّوا عليه بغير إمامٍ أرْسَالًا حتى فرَغوا. ثمّ أُدخِل النساء فصلَّين عليه، ثم أُدخِل الصِّبيان فصلّوا عليه، ثم أُدخِل العبيد فصلّوا عليه أرسالًا لمْ يَؤُمهم على رسول الله ﷺ أحدٌ.
حالُ الصّحابة عند وفاتِه ﷺ وبكائهم على فِراقه: عن عُبَيْد الله بن عُمير قال: مات رسول الله ﷺ وعلى مكَّة وعملها عتَّابُ بن أَسِيد. فلما بلغهم موت النبيّ ﷺ ضجّ أهل المسجد فخرج عتَّاب حتى دخل شِعبًا من شِعاب مكّة. فأتاه سُهَيْلُ بن عمرو فقال: قُم في الناس فتكلّم! فقال: لا أطيق الكلام مع موت رسول الله ﷺ! قال: فاخرُج معي فأنا أكْفِيكَه. فخرجا حتى أتيا المسجد الحرام. فقام سُهيل خطيبًا، فحمَد الله وأثنى عليه وخطَب بمثل خطبة أبي بكرٍ ولمْ يَخرِم عنها شيئًا.
امتثالُ أمره صلّى الله عليه وآله وسلّم: عن عطاءٍ قال: كان النبيّ ﷺ يخطُب فقال للناس: «اجلِسوا!»، فسمعه عبد الله بن مسعودٍ وهو على الباب فجلس؛ فقال: «يا عبد اللهِ ادخُلْ».
التشديد على مَن خالف أمره ﷺ: عن ابن سِيرينَ أنّ خالد بن الوليد دخل على عُمر وعَلى خالدٍ قميصُ حريرٍ فقال له عُمرُ: ما هذا يا خالد؟ قال: وما بالُه يا أمير المؤمنين؟ أليسَ قد لبِسَه ابنُ عوفٍ؟ قال: فأنتَ مثلُ ابن عوفٍ ولكَ مثلُ ما لابن عوفٍ؟ عزمتُ على مَن في البيت إلّا أخذَ كلُّ واحدٍ منهم طائفةً ممّا يليه فمزّقوه حتى لمْ يبقَ منه شيءٌ.
اتِّباع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: عن أنسٍ بن مالكٍ أنّه رأى في يد النبيّ ﷺ خاتمًا من ورقٍ يومًا واحدًا فصنَع الناس فلبِسوا، وطرَح (ألقاه) النبيّ ﷺ فطرَح الناس. وأخرجه البخاريّ بنحوه، وعن ابن عُمر قال: كان رسول الله ﷺ يلبس خاتمًا من ذهبٍ فنبَذه وقال: «لا ألْبَسُه أبدًا!» فنبذَ الناس خواتيمهم.
رعايَة النِّسبَة التي كانت لسيّدنا محمد ﷺ بأصحابه وأهل بيته وعشيرته وأُمَّته: عن عبد الله بن أبي أَوْفَى قال: شكا عبد الرحمن بن عوفٍ خالد بن الوليد إلى رسول الله ﷺ فقال النبيّ: «يا خالد! لا تُؤذِ رجُلًا من أهلِ بدرٍ، فلو أنفقتَ مثل أحدٍ ذهبًا لمْ تُدرِك عملَه»، فقال: يقعون فيَّ فأرُدُّ عليهم. فقال: «لا تؤذوا خالدًا فإنّه سيفٌ من سيوف الله صبَّهُ الله على الكُفّار». وعن ابن عُمر -رضي الله عنهما- قال: آخرُ ما تكلَّم به رسول الله ﷺ: «اخلُفُونِي في أهلِ بيتي!».
حُرمَة دماء المسلمين وأموالهم: عن ابن عباسٍ قال: قُتِل قتيلٌ على عهد رسول الله ﷺ لا يُعلَمُ قاتِله، فصعد مِنبره فقال: «يا أيّها الناس! أيقتل قتيلٌ وأنا بين أظهُرِكم لا يُعلَم مَن قتله؟ لو أنّ أهل السماء والأرض اجتمعوا على قتل مسلمٍ لعذّبهم الله بلا عددٍ ولا حسابٍ».
الاحتِرازُ عن قتل المسلمين وكراهية القِتال على المُلكِ: عن أَوْسٍ بن أَوْسٍ الثَّقَفِيّ قال: دخل علينا رسول الله ﷺ ونحن في قُبّةٍ في مسجد المدينة فأتاه رجلٌ فسارَّهُ بشيءٍ لا ندري ما يقول. فقال: «اذهب قُل لهم: يقتُلُوهُ». ثم دعاه فقال: «لعلَّه يشهدُ أنْ لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله؟ فقال: نعم! فقال: «اذهب فقُل لهم: يُرسِلُوه، فإنّي أُمِرتُ أنْ أقاتِل الناس حتى يشهدوا أنّ لا إله إلّا الله وأنّي رسول الله، فإذا قالوها حُرِّمَتْ عليَّ دماؤهم وأموالهم إلّا بحقّها وكان حسابهم على الله».
الاستِخفافُ بالمُسلم واحتقاره: أخرج ابنُ سعدٍ عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تعثَر أسامةُ على عَتَبَة الباب أو أُسْكُفَّةِ (عتبة الباب السُفلى) الباب فشُجَّ جبهته، فقال ﷺ: «يا عائشة! أمِيطي عنه الدّم» فتقذَّرتُه. قالت: فجعل رسول الله ﷺ يمصُّ شَجَّته ويمجُّه ويقول: لو كان أسامة جاريةً لكسوتُه وحلَّيتُه حتى أُنفِقه.
لعْنُ وشتْمُ المُسلم: عن زيد بن أَسْلَم قال: أُتِيَ بابن النعمان إلى النبيّ ﷺ فجلده ثم أُتِيَ به فجلده مرارًا أربعًا أو خمسًا. فقال رجلٌ: اللهُمّ! العَنْهُ، ما أكثر ما يشرب! وما أكثر ما يُجلَد! فقال النبيّ ﷺ: «لا تلعنهُ فإنَّه يحبُّ الله ورسوله».
تجسُّس عَورات المُسلم: عن عبد الرحمن بن عوفٍ أنّه حرَس ليلةً مع عُمر بن الخطّاب المدينة. فبينما هم يمشون شبَّ لهم سِراجٌ في بيتٍ فانطلقوا يَؤُمُّونَه (حتى إذا) دنوا منه إذا بابٌ مجافٌ على قومٍ لهم فيه أصوات مرتفعةٌ ولَغَطٌ (ضجّةٌ لا يُفهم معناها). فقال عُمر -وأخذ بيد عبد الرحمن-: أتدري بيت من هذا؟ (قال قلتُ: لا) قال: هذا بيت رَبِيعَة بن أُمَيَّة بن خَلفٍ وهم الآن شَربٌ، فما ترى؟ قال: أرى أن قد أتينا ما (نهانا) الله عنه! (نهانا الله فقال: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] فقد تجسّسنا فانصرَف عنهم عُمر وتركهم.
استرضاءُ المُسلم: نذكُر في ذلك عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: دعتْني أمّ حبيبة زوجُ النبيّ ﷺ عند موتِها فقالت: قد كان يكون بيننا (ما يكونُ) بين الضَّرائر فغفر الله لي ولكِ ما كان من ذلك، فقلتُ: غفر الله لكِ ذلك كلّه وتجاوَز وحلَّلَكِ من ذلك فقالت: سَرَرْتِني سرَّكِ الله! وأرسلَتْ إلى أمّ سَلَمة فقالت لها مثل ذلك.
قضاء حاجة المُسلم: عن عَليّ قال: ما أدرِي أيّ النعمتين أعظم عليَّ (مِنَّةً) من ربِّي رجلٌ بذَل مُصاص (أي ظنّني محلًا لقضاء حاجته) وجهه إليَّ فرآني موضِعًا لحاجته وأجْرَى الله قضاءها، أو يسَّره على يدي، ولأن أقضيَ لأمرئٍ مسلمٍ حاجةً أحبُّ إليّ من مِلْء الأرض ذهبًا وفضةً.
إكرامُ العلماء والكُبَراء وأهلِ الفضل: عن عمّار بن أبي عمّارٍ أنّ زيد بن ثابتٍ ركِب يومًا، فأخذ ابن عبّاس برِكابه، فقال (له): تنحَّ يا ابن عمّ رسول الله ﷺ! فقال (له): هكذا أُمِرنا أن نفعل بعُلمائنا وكُبرائنا! فقال زيدٌ: أرِني يدكَ، فأخرج يده، فقبّلها فقال: هكذا أُمِرنا أن نفعل بأهل بيتِ نبيّنا.
التنكُّرُ بموت الأكابِر (أي: التغيّر عن حالٍ تسرُكَ إلى حالٍ تكرهها منه): عن أُبَيّ بن كعبٍ قال: كُنّا مع رسول الله ﷺ ووجوهنا واحدةٌ حتى فارقنا، فاختلفتْ وجوهنا يمينًا وشمالًا؛ وفي روايةٍ أخرى عنه عِنده قال: كُنّا مع نبينا ﷺ ووجْهُنا واحدٌ فلما قُبض نظرنا هكذا وهكذا. (أي توجّهنا يمينًا وشمالًا في اتجاهين).
إكرامُ الوالدين: عن بُرَيْدَة أنّ رجلًا جاء إلى النبيّ ﷺ فقال: يا رسول الله! إنّي حملتُ أمي على عُنقي فَرْسخَين (الفرسخ=٣ أميال) في رَمْضاءَ (أي: الحجارة الحامية من حرّ الشمس) شديدةٍ لو أَلقَيتُ بها بضعةً من لحمٍ لنضجتْ فهل أدّيتُ شُكرها؟ فقال: «لعلَّه أن يكون لِطَلْقةٍ واحدةٍ (أي: لعلّ ما فعلتَه لأمكَ يساوي طلقةً واحدةً من طلق الولادة).»
الرَّحمة على الأولادِ والتَّسْوية بينهم: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: رأيتُ رسول الله ﷺ على المنبر يخطب الناس، فخرج الحُسين بن عَليّ في عُنقه خِرْقَةٌ يجرّها، فعثَر (وقع) فيها فسقط على وجهه، فنزل النبيّ ﷺ عن المنبر يريده، فلمّا رآه الناس أخذوا الصبيّ فأتوه به، فأخذه وحمله فقال: «قاتَل الله الشيطان! إنّ الولد فتنةٌ، واللهِ ما علمتُ أنّي نزلتُ عن المنبر حتى أُتِيتُ به».
إكرامُ اليتيم: عن أبي الدَّرداء قال: أتي النبيّ ﷺ رجلٌ يشكو قسوة قلبه، قال: «أتحبُّ أن يلين قلبك وتُدرِك حاجتك؟ ارحَم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعِمه من طعامك، يَلِن قلبك وتدرك حاجتك».
إكرامُ صديق الأب: عن أبي أُسَيْدٍ السَّاعِديّ أنّ رجلًا قال: يا رسول الله! هل بقيَ من برّ أبويَّ شيءٌ أبِرُّهما به بعد موتهما؟ قال: «نعم، الصّلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصِلة الرحم التي لا توصَلُ إلّا بهما، وإكرامُ صديقهما».
عِيادَةُ المريض وما يُقال له: عن جابر بن عبد الله قال: مَرِضتُ مرضًا فأتاني النبيّ ﷺ يَعُودُني وأبو بكرٍ وهما ماشيان، فوجداني أُغمِيَ عليَّ، فتوضأ النبيّ ﷺ ثم صبَّ وضوءه عليَّ، فأفقتُ فإذا النبيّ ﷺ! فقلتُ: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي؟ كيف أقضي في مالي؟ فلمْ يُجِبني بشيءٍ حتى نزَلتْ آية الميراث.
الاستئذانُ: عن أنسٍ -رضي الله عنه- أنّ رسول الله ﷺ كان إذا سلّم سلَّم ثلاثًا، وإذا تكلَّم بكلمةٍ أعادها ثلاثًا.
حُبُّ المُسلم لله: عن البَراء بن عازِبٍ -رضي الله عنهما- قال: كُنا جُلوسًا عند النبيّ ﷺ فقال: «أيُّ عُرَى (جمع عُروة وهو ما يُستمسَك به) الإسلام أوثق؟» قالوا: الصلاة، قال: «حَسَنةً وما هي بها»، قالوا: صيام رمضان، قال: «حَسَنةً وما هو به»، قالوا: الجِهادُ، قال: «حَسَنةً وما هو به»، قال: «إنَّ أوثق عُرَى الإيمان أن تحبَّ لله وتُبغِض في الله».
إصلاحُ ذاتِ البَيْنِ (أي: الخِصلة التي تكون وصلةً بين القوم من قرابةٍ ومودةٍ): عن أنسٍ بن مالك قال: كان الأوْسُ والخَزرج حَيَّين من الأنصار وكان بينهما عداوةٌ في الجاهلية، فلما قدِم عليهم رسول الله ﷺ ذهب ذلك وألَّف الله بين قلوبهم، فبينما هم قُعودٌ في مجلسٍ لهم إذا تمثَّل رجلٌ من الأَوْس ببيتٍ فيه هِجاءُ الخزرَج، وتمثَّل رجلٌ من الخَزرج ببيتٍ في هجاء الأَوس، فلمْ يَزل هذا يتمثّل ببيتٍ وهذا يتمثَّل ببيتٍ حتى وثب بعضهم إلى بعضٍ وأخذوا أسلحتهم وانطلقوا للقتال، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ وأُنزِل (الوحي) فجاء مُسرعًا قد حسَر على ساقيه، فلما رآهم ناداهم: {يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تمُوتُنَّ إِلَّا وأَنتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] حتى فرغ من الآيات، فوحَّشوا بأسلحتهم فرموا بها، واعتنق بعضهم بعضًا يبكون.
صِلة الرَّحم وقطْعُه: عن جابرٍ أنّ جويرية -رضي الله عنها- قالت للنبيّ ﷺ: إنّي أريدُ أن أعتِق هذا الغُلام، قال: «أعطِه خالَكِ الذي في الأعْراب يرعى عليه (أي: يرعى ماشيته) فإنّه أعظمُ لأجرِكِ».
أمّا في قصص قطع الرَّحم، فعن الأَعْمَش قال: كان ابن مسعودٍ جالسًا بعد الصُّبح في حَلقةٍ قال: أَنْشُدُ الله قاطع رَحِمٍ لمّا قام عنّا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مُرتَجَةٌ (مغلقة) دون قاطع رَحمٍ.