الباب الثامن: بابُ الإنفاق في سبيل الله تعالى

كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ينفقون الأموال وما أعطاهم الله تبارك وتعالى في سبيل الله ومواقع رضاء الله، وكيف كان ذلك أحبَّ إليهم من الإِنفاق على أنفسهم، وكيف كانوا يُؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة

 

رغبة النبيّ ﷺ وأصحابه على الإنفاق

من مواقف الرسول ﷺ وأصحابه العديدة في الإنفاق، ما أخرجه ابن جَريرٍ عن جابرٍ أنّ رجلًا أتى النبيّ ﷺ فسأله فأعطاهُ، ثمّ أتاه آخر فسأله فوَعده؛ فقام عُمر بن الخطّاب فقال: يا رسول الله! سُئِلتَ فأعطيتَ، ثمّ سُئلتَ فأعطيتَ، ثمّ سئِلتَ فوعدتَ، ثمّ سئِلتَ فوعدتَ، فكأنّ رسول الله ﷺ كرِهها؛ فقام عبد الله بن حُذَافَة السَّهمِيّ فقال: أنفِق يا رسول الله! ولا تخشَ من ذِي العرش إقلالًا، فقال: «بذلك أُمِرتُ».

 

 تصدّق عمر رضي الله عنه بأرضه في خيبر

أخرج الأئمة السّتة عن ابن عُمر -رضي الله عنهما- قال: أصاب عُمر بخيبَر أرضًا، فأتى إلى النبيّ ﷺ، فقال: أصبتُ أرضًا لمْ أُصِب مالًا قطّ أنفَس منه فكيف تأمرني به؟ قال ﷺ: «إن شِئتَ حبَّسْتَ أصلها، وتصدّقتَ بها»؛ فتصدّق بها عُمر أنّه لا يُباع أصلُها، ولا يُوهَب، ولا يُورَثُ في الفقراء، والقُربى والرّقاب، وفي سبيل الله والضّيف (وابن السبيل) لا جُناح على مَن وّليها وأن يأكل منها بالمعروف أو يُطعِم صديقًا غير مُتمَوِّلٍ فيه (أي: غير مُتخذٍ منها ولا مُلكًا).

 

الإنفاق على الإسلام

عند الطَبرانيّ عن زيدِ بن ثابتٍ قال: جاء إلى رسول الله ﷺ رجلٌ من العرب فسأله أرضًا بين جبلين فكتب له بها فأسلَم ثمّ أتى قومه فقال لهم: أسلِموا فقد جئتُكم من عند رجلٍ يُعطى عَطيّة مَن لا يخاف الفاقَةَ.

 

الإنفاق في الجِهاد في سبيل الله تعالى

إنفاق عبد الرحمن بن عوفٍ -رضي الله عنه- في ذلك

أخرج ابن المُبارك عن مَّعْمَرٍ عن الزُّهْرِيّ قال: تصدّق عبد الرحمن بن عوفٍ على عهد رسول الله ﷺ بشطرِ ماله، ثمّ تصدّق بعدُ بأربعين ألف دينارٍ، ثم حمل على خمس مائة فرسٍ في سبيل الله وخمس مائة راحِلةٍ، وكان أكثر ماله من التجارة. وقد تقدّم أنّ عبد الرحمن بن عوفٍ تصدّق في غزوة تبوك بمائتي أُوقِيَّةٍ.

 

إنفاق زينب بنت جحشٍ رضي الله عنها

أخرج الشَّيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله ﷺ: «أسرعكُنّ لِحاقًا بي أطولُكُنَّ يدًا». قالت: فكُنَّ يتطاوَلنَ أيّتهنَّ طولُ يدًا، قالت: وكانت أطولنا يدًا زينب لأنّها كانت تعمل بيدها وتتصدّق. وفي طريقٍ آخر: قالت عائشة: فكُنّا إذا اجتمعنا في بيت إحدانا بعد وفاة رسول الله ﷺ نمدّ أيدينا في الجِدار نتطاوَل، فلم نزل نفعل ذلك حتى توفيت زينب بنت جحشٍ، وكانت امرأةً قصيرةً ولم تكن بأطولنا فعرِفنا حينئذ أنّ النبيّ ﷺ أنما أراد طول اليد بالصدقة، وكانت زينب امرأةٌ صَناعَ اليدين-أي ماهرة في عمل اليّد- فكانت تدبُغ وتخرُز- أي تعالج الجلد كي يصبح ليّنًا وتخيطه- وتتصدّق به في سبيل الله.

 

الإنفاق على الفقراء والمساكين وأهلِ الحاجة

عن نافعٍ أنّ ابن عُمر -رضي الله عنهما- اشتكى- أي مَرِضَ- فاشتُرِي له عنقود عنبٍ بدِرهَمٍ، فجاء مسكينٌ فقال: أعطوه إيّاه، فخالف إليه إنسانٌ فاشتراه منه بدِرهمٍ. ثم جاء به إليه، فجاءه المسكين فسأله، فقال: أعطوه إيّاه. فخالف إليه إنسانٌ فاشتراه منه بدِرهمٍ. ثم جاء به إليه، فجاءه المسكين يسأل، فقال: أعطوه إيّاه. ثم خالف إليه إنسانٌ فاشتراه منه بدِرهمٍ. فأراد أن يرجِع فمُنِع. ولو علِم ابن عُمر بذلك العنقود ما ذاقه.

 

الصَّدقاتُ

تتعدّد مواقف الصحابة في الصَّدقات، ونذكر منها عن ابن عُمر -رضي الله عنهما- أنّه قال: قال رسول الله ﷺ: «مَن يشتري لنا بئر رومَة فيجعلها صدقةً للمسلمين؟ سقاه الله يوم القيامة من العطش»؛ فاشتراها عُثمان بن عفّان فجعلها صدقةً للمسلمين.

 

إطعام الطعام

عن عَليّ بن أبي طالبٍ قال: لأَنْ أجْمَع ناسًا من أصحابي على صاعٍ من طعامٍ أحبُّ إليّ من أن أَخْرُج إلى السوق فأشتري نَسمةً (أي: العَبد أو الأَمَة) فأعتقها.

إطعام النبيّ ﷺ الطعام: عن عبد الله بن سلَامٍ أنّ النبيّ ﷺ رأى عثمان يقود ناقةً تحمل دقيقًا وسَمنًا وعسلًا، فقال ﷺ: «أَنِخْ!»، فأناخَ؛ فدعا ببُرمةٍ فجعل فيها من السمن والعسل والدقيق، ثم أمر فأُوقِد تحتها حتى نضج، ثم قال: «كُلوا!» فأكل منه ﷺ ثم قال: «هذا شيءٌ يدعوه أهل فارِس الخَبِيصَ».

إطعام طَلحَة بن عُبَيدِ الله -رضي الله عنه-: عن سَلمة بن الأكوع: ابتاع طَلحَة بن عُبَيدِ الله بئرًا بناحية الجَبل وأطعم الناس، فقال رسول الله ﷺ: «إنّك يا طلحَة! الفيَّاضُ».

إطعام سعدِ بن عُبَادَة -رضي الله عنه-: عن سعد بن عُبادَة أنّه أتى النبيّ ﷺ بصحْفَةٍ -أو حَفنَةٍ- مملوءةٍ مُخًا، فقال: «يا أبا ثابت! ما هذا؟» قال: والذي بعثكَ بالحقّ! لقد نحرتُ أربعين ذات كَبدٍ فأحببتُ أن أُشْبِعكَ من المُخّ. فأكل النبيّ ﷺ ودعا له بخيرٍ.

ضيافة الأضياف الوارِدين في المدينة الطَّيبة: عن أبي هُريرة قال: مرّ بي رسول الله ﷺ فقال: «أبا هِرٍّ!» فقلتُ: لبّيكَ يا رسول الله! قال: «الْحَقْ أهلَ الصُّفَّةِ فادْعُهم» قال: وأهل الصُّفَّة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهلٍ ولا مالٍ، إذا أتته صدقةٌ بعث بها إليهم ولمْ يتناوَل منها شيئًا، وإذا أتته هديّةٌ أرسل إليهم وأصاب منهم وأشركهم فيها.

 

زُهدُ النبيّ ﷺ وأصحابه عن الدنيا والخروجِ منها بدون تلبُّسٍ بها

زُهد النبي ﷺ: عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: أُتِيَ رسول الله ﷺ بقدَحٍ فيه لبنٌ وعسلٌ فقال: «شَرْبَتين في شَرْبَةٍ وأدْمَيْنِ في قَدحٍ! لا حاجة لي به. أما إني لا أَزْعُم أنّه حرامٌ ولكن أكرَهُ أن يسألني الله عزّ وجلّ عن فُضُولِ الدُنيا يوم القيامة، أتواضَع لله، فمَن تواضَع للهِ رفعه الله، ومَن تكبَّر وضَعَه الله، ومَن اقتصَد أغنَاه الله، ومَن أكثر ذِكر الموتِ أحبَّه الله».

زُهدُ عَليٍّ بن أبي طالبٍ: عن زيدٍ بن وَهْبٍ قال: خرج علينا عَلِيٌّ وعَليه رِداءٌ وإزارٌ قد رقَّعه بِخرقَةٍ فقيل له، فقال: إنّما ألبس هذين الثوبين ليكون أبعَد لي مِن الزهو، وخيرّا لي في صلاتي، وسُنةً للمؤمن.

زُهدُ سَلْمان الفارِسيّ: عن الحسن قال: كان عطاء سلمان خمسة آلاف درهمٍ وكان أميرًا على زُهاءِ ثلاثين ألفًا من المسلمين، وكان يخطُب الناس في عباءةٍ يفترش بعضها ويلبَس بعضها، وإذا خرج عطاؤه أمْضَاهُ، ويأكل من سَفيف يده (أي: ما تصنعه يده من السفيف، وهو المنسوج من الخوص).

زُهد أبي الدَّرْداءِ: عن أبي الدَّرداء قال: كنتُ تاجرًا قبل أن يُبعَث النبيّ ﷺ، فلمّا بُعث النبيّ ﷺ أردتُ أن أجمَع بين التجارة والعِبادة فلمْ يستقيم، فتركتُ التجارة وأقبلتُ على العِبادة.

الإنكار على مَن لمْ يزهَد عن الدنيا وتلذَّذ بها والوصيّة بالتحفُّظ عنها: عن عائشة قالت: رآني رسول الله ﷺ وقد أكلتُ في اليوم مرّتين فقال: «يا عائشة! أمَا تُحبّين أن يكون لكِ شَغلٌ إلّا جوفَكِ الأكلُ في اليوم مرّتين من الإسرافِ، والله لا يحبّ المُسرفين»، وفي روايةٍ قال: «يا عائشة! اتخذتِ الدُّنيا بطنكِ؟ أكثَرُ من أكلَةٍ كل يومٍ سَرَفٌ، والله لا يحبّ المسرفين».

 


حياة الصحابة - الجزء الثاني
حياة الصحابة - الجزء الثاني
محمد يوسف الكاندهلوي
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00