حدثت انتفاضة القدس خلال عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وتِسعةٍ وعشرين ميلاديًّا (1929م)، وحاول وجهاء العرب السيطرة على الوضع في فلسطين في إطار مساعٍ سلميّة للحلّ، ولكن كان الوضع قريبًا جدًّا من الاشتعال نظرًا للظلم البيّن الواقع على أهل البلاد الأصليّين.
ويشهد تقرير لجنة بريطانيّة أنَّ اليهود هم من يتحمَّلون مسئوليّة اشتعال الوضع، فقد شوهد يهوديّ مدنيّ وهو يصدر الأوامر للجنود البريطانيّين بإطلاق النار على العرب، كما بدأ اليهود بتفتيش العرب على مرأًى ومسمعٍ من القوَّات البريطانيّة، ووقع العديد من الحوادث ضدّ السكّان العرب.
وعندما سمع الفلَّاحون والبدو أنَّ اليهود يقتلون العرب تجمَّع نحو ثلاثةِ آلافِ عربيٍّ (3000) دعمًا لإخوانهم، فما كان من الحكومة البريطانيّة إلَّا استعمال العنف ضدّهم فقتلت منهم ستِّين شخصًا (60) غير الإصابات الفادحة.
وعلى الرغم من كلّ تلك الأحداث، ظلَّت بريطانيا رافضة لفكرة تشكيل مجلس نيابيّ منتخب للفلسطينيّين، وقد أيَّدهم الصهاينة في ذلك بشكلٍ واضح؛ لعلمهم أنَّ المجلس سيرفض السياسات البريطانيّة بشكلٍ واضحٍ ويكون ممثِّلًا للشعب الفلسطينيّ.
وفي الوقت نفسه كان هناك مؤتمر السلام سان ريمو بعد انتهاء الحرب العالميّة، وهذا المؤتمر بدلًا من أن يعيد النظر في سياسة بريطانيا بشأن الوطن القوميّ اليهوديّ في فلسطين منح بريطانيا حقّ الانتداب على فلسطين.
وفي العام نفسه، بعد إعلان الانتداب البريطانيّ على فلسطين، وتضمين وعد بلفور بنود الانتداب، تمَّ تعيين "هربرت صموئيل" في منصب المندوب السامي، وبذلك وضحت معالم المخطط الصهيونيّ لتشريد الشعب الفلسطينيّ وسدّ كلّ الأفق السياسيّة للحلّ السلميّ.
واعترفت حكومة الانتداب بالمنظَّمة الصِّهيونِيَّة كهيئة رسميّة، وباللغة العبريّة لغة رسميّة للبلاد رغم محدوديّة عدد السكّان اليهود في ذلك الوقت.
وكان واضحًا أنَّ الكفاح ضدّ الصِّهيونِيَّة والاستعمار لا بدَّ أن يدخل مرحلة جديدة، وبالفعل وقعت عدّة اشتباكات مسلَّحة بين القبائل العربيّة والحرس البريطانيّ على طول الحدود التي تفصل فلسطين عن سوريا.
وتمَّ رفض كلّ القرارات البريطانيّة التي تحاول خلق هويّة قوميّة لليهود في فلسطين، وكان الردُّ الفلسطينيُّ على محاولات الخداع البريطانيّ واضحًا بعبارات مثل:
"إنَّنا لا نفهم كيف يمكن أن تتمَّ إقامة وطن قوميّ لعناصر غريبة في بلادنا دون المساس بحقوقنا المدنيّة والدينيّة"
وأيضًا:
"إنَّنا نحتجّ بشدّة ضدّ عزل فلسطين عن أمّها سوريّة، وجعلها وطنًا قوميًّا لليهود"
وفي مؤتمر القاهرة عام ألفٍ وتِسعِمِئةِ وواحدٍ وعشرين ميلاديًّا (1921م) تسلَّم ونستون تشرشل زمام المسؤوليّة عن دائرة الشرق الأوسط، واعتبر المؤتمر أنَّ حكومة بريطانيا هي مسئولة فيما يتعلّق بفلسطين عن إنشاء وطنٍ قوميّ لليهود وذلك بموجب شروط الانتداب.
وذهب تشرشل لمقابلة المعارضين في دولة فلسطين حيث اجتمعوا به وقدَّموا له مذكّرة شاملة وصفها تشرشل بأنَّها دراسة تتَّصف بكفاءة بالغة كانت أهمّ مطالبها إلغاء الوطن القوميّ اليهوديّ ووقف الهجرة وبيع الأراضي وإقامة حكومة وطنيّة فلسطينيّة مسئولة أمام برلمان، وعدم فصل فلسطين عن الدول العربيّة الشقيقة.
واستمرَّت الوفود الفلسطينيّة للحكومة البريطانيّة وللدول الأوروبيّة، وكانت مطالبها واضحة بإلغاء وعد بلفور، كالآتي:
"أن يُلغى التصريح، وتحلّ محلّه اتفاقيّة تصون حقوق ومصالح وحريّات شعب فلسطين، وتتضمّن في الوقت نفسه نصًّا يؤمِّن المطامح الدينيَّة اليهوديّة المعقولة، على أن لا يمنحوا أيّة امتيازات سياسيّة خاصّة بهم من شأنها أن تصطدم حتمًا بالحقوق العربيّة".
وبعد رفض الحكومة البريطانيّة لكلّ مطالب الوفد الفلسطينيّ تأكّد الشعب أنَّه لا بدَّ من مواجهة الحركة الصِّهيونِيَّة بالقوّة، وكان الهدف هو بثّ الذعر في نفوس المهاجرين اليهود، وبالتالي وقف الهجرة وإقناع بريطانيا أنَّ العرب مصمِّمون على الدفاع عن أرضهم وحقوقهم.
وقد وقعت بعض المواجهات المسلَّحة بين العرب واليهود في ذكرى وعد بلفور، واتَّخذت السلطات البريطانيّة أحكامًا صارمة ضدّ العرب ومخفَّفة ضدّ اليهود.
وكانت الهجرة اليهوديّة والسياسات البريطانيّة تثير استياء العرب وقلقهم لا من الزاوية السياسيّة فقط بل من الزاوية الاقتصاديّة أيضًا. وتمَّ اكتشاف كميّة كبيرة من الأسلحة والذخائر متَّجِهة للحركة الصِّهيونِيَّة، وهو ما كشف النقاب عن وجود جهود لتهريب الأسلحة على نطاق واسع.
وأدرك الفلسطينيّون أنَّ استخدام العنف متعذِّر بدون قيام منظَّمة تهدف إلى الثورة وتتوفَّر لديها الوسائل اللازمة لتنفيذ ذلك.
ورأى تشرشل أن يضع حدًّا لحالة القلق والاضطراب في فلسطين، فأصدر "الكتاب الأبيض" عام ألفٍ وتِسعِمِئةِ واثنَينِ وعشرين ميلاديًّا (1922م) محاولةً منه لتهدئة الأوضاع، ولم يزد فيه على أن قال:
"إنَّ الهجرة اليهوديّة يجب أن تستمرّ ولكنْ بشكل لا يؤثِّر على الطاقة الاقتصاديّة للبلاد"
وهو ما يعني استمرار الهجرة ولكن مع تقديم وعود باهتة لتمرير مخطَّط الاستيطان، وبالتأكيد فشل كتابه في تأمين موافقة العرب على الهجرة اليهوديّة وعلى تحقيق الوطن القوميّ اليهوديّ؛ إذ لم يقدّم كتابه أيّ جديد.
وبدأت سلطات الاحتلال البريطانيّ في التنازل عن الأراضي الفلسطينيّة مثل أراضي بيسان والبيرة وقيصريّة التي تملكها الدولة لليهود، واستمرَّت في مسعاها رغم احتجاج الأهالي.
وفي اليومين الثالث عشر والرابع عشر من تموز عام ألفٍ وتِسعِمِئةِ واثنَينِ وعشرين ميلاديًّا (1922م)، أعلنت أغلب المدن في فلسطين وسوريّة إضرابًا عامًّا احتجاجًا على السلطات البريطانيّة.
وعقد المؤتمر الفلسطينيّ الخامس والمؤتمر الفلسطينيّ السادس عام 1923م برئاسة موسى كاظم الحسينيّ وقرّر استمرار نهج المقاومة السلميّة والتفاوض مع الحكومة البريطانيّة.
وقد قوبلت قواعد تشكيل المجلس التشريعيّ الفلسطينيّ التي أصدرها الاحتلال باستياء شديد؛ فأكثريّة أعضاء المجلس معيَّنون لا منتخبون، وتركيز السلطة الحقيقيّة على نحو بالغ في يد المندوب السامي، أمَّا الشعب وممثلوه فتمَّ حرمانهم من أيَّة سلطة.
وشنَّت المعارضة في فلسطين حملة نشطة لمقاطعة انتخابات المجلس التشريعيّ الذي رأته أداة جديدة للاحتلال، وقد نجحت تلك الحملة التي أيَّدها أغلب أهل فلسطين.
وتبلورت الصورة واضحة عند الشعب الفلسطينيّ، وهي أنَّ بريطانيا والانتداب هما الحاميان الفعليّان للصهيونيّة، وأنَّ سياسة الوطن القوميّ اليهوديّ إنَّما تمثّل تلاحم المصالح الاستعماريّة البريطانيّة بالاستعمار الصهيونيّ في فلسطين والذي يكفل نشوء أكثريّة وسيطرة يهوديّة، ثمَّ طرد العرب في النهاية من بلادهم.
ورغم تبلور الفكرة بهذا الوضوح ظلّ الكفاح ضدَّها سلميًّا ربَّما رهبةً من القوّة العسكريّة البريطانيّة في ذلك الوقت.