تُمثّل فلسطين قلب العروبة، وقضيَّتها الكبرى، ويتميَّز موقعها بالتوسُّط، حيث تتحكَّم في مفارق الطرق بين آسيا وإفريقيا. سُمِّيت فلسطين في القديم بأرض كنعان؛ لأنَّ الكنعانيِّين كانت لهم السيادة عليها ما يقارب ألفًا وخَمسمئة عامٍ (1500)، وقد بوركت أرضها بأنبياء خلّد ذكرهم القرآن مثل إبراهيم، ويعقوب، وموسى، وعيسى عليهم السلام.
تحدَّث الكاتب عن يعقوب عليه السلام، والذي سُمِّي بإسرائيل، والذي هاجر عليه السلام من فلسطين إلى مصر بسبب القحط، كما ورد في قصّة يوسف عليه السلام. وقد أحسن المصريُّون استقباله هو وقومه، إكرامًا لنبيّ الله يوسف عليه السلام، وهناك كثر عدد بنو إسرائيل.
ثمَّ جاءت مرحلة زمنيّة تعرَّض خلالها بنو إسرائيل لظلم فرعون طاغية عصره، وبعث الله موسى عليه السلام منقذًا لهم ومعلِّمًا ونبيًّا، وخرج بهم موسى عليه السلام من مصر بعد إقامتهم أربعمئة سنةٍ (400)، وأهلك ربُّ العالمين فرعونَ الطاغية. ورغم أنَّ بني إسرائيل رأَوا آيات الله وقدرَته إلَّا أنَّهم رفضوا دخول الأرض المقدَّسة فكتب الله عليهم التيه أربعين سنة.
ثمَّ دخل بنو إسرائيل فلسطين على يد يوشع بن نون، بعد وفاة موسى عليه السلام، ولكنَّهم لم يقيموا لهم مملكة تسيطر على أنحاء البلاد، بل كانوا قبائل متفرِّقة.
وكانت نشأة أوّل مملكة لليهود في فلسطين في عهد نبيّ الله داود عليه السلام، ولكنَّها انقسمت بعد وفاة سليمان عليه السلام إلى مملكة إسرائيل في الشمال ومملكة يهوذا في الجنوب، ونشبت بينهما حروب ونزاعات كثيرة، فكان ذلك إيذانًا بنهاية عزِّهم الذي لم يدم أكثر من سبعين عامًا.
وكانت نهاية تلك الحقبة على يد بختنصر الكلدانيّ عام 586 ق.م. والذي سبى ما يقرب من خمسين ألف أسير ونقلهم إلى بابل. ومكث اليهود في بابل في العراق نحو سبعين سنة تغيَّرت فيها لغتهم وتنوَّعت ثقافتهم.
ولمّا استولى كورش ملك الفرس على بابل عامَ خَمسِمِئةٍ وتِسعةٍ وثلاثينَ قبل الميلاد (539 ق.م) سمح بإعادة اليهود إلى فلسطين ولكنَّها ظلَّت تحت حكم الفرس حتَّى عامِ ثلاثِمِئةٍ واثنين وثلاثين قبل الميلاد (332 ق.م) حين استولى الإسكندر المقدونيّ على فلسطين.
ثمَّ انقسم اليهود إلى قسمين؛ قسمٍ اقتدى باليونان وحضارتهم، وقسمٍ آخر تمسَّك بالعقيدة اليهوديّة الدينيّة، وتشبَّث بأساليب الحياة اليهوديّة التقليديّة، ومن هذا القسم عائلة تسمَّى العائلة المكابيّة التي قادت ثورةَ عامِ مِئةٍ وسبعةٍ وستِّين قبل الميلاد ( 167 ق.م) ضدّ الرومان الذين حكموا فلسطين بعد أن ورِثوا بقايا الحضارة الإغريقيّة.
وقد نجحت الثورة المكابيّة ضدّ الرومان لبعض الوقت نظرًا لفترة الضعف التي كانت تمرّ بها الدولة الرومانيّة حينها.
وتحوَّلت العائلة المكابيّة إلى أداة للقهر والاضطهاد للشعوب التي كانت تعيش في فلسطين. ودارت بينها وبين العرب الأنباط الذين حكموا جنوب فلسطين حروبٌ كثيرة انتهى معظمها بانتصار الأنباط. ثمَّ انتهت تلك المرحلة بفرض الرومان سيطرتهم مرّةً أخرى على المنطقة كلِّها.
وفي العصر الرومانيّ منح الرومان اليهود عدّة مَيزات دينيّة، وفي هذا العصر وُلد المسيح عليه السلام في بلدة بيت لحم، ونشأ في الناصرة، وعاش معظم حياته في فلسطين وفيها نشر تعاليمه. وقد عارضه زعماء اليهود بشدّة وكان ذلك إيذانًا بزوال دولتهم.
والمعروف أنَّ الدعوة النصرانيّة لقيت مقاومة شديدة من اليهود كما لقيت المسيحيّة المقاومة الشديدة من الرومان حتَّى مطلع القرن الرابع الميلاديّ حين تنصَّر قسطنطين، وشيَّد عدَّة كنائس في فلسطين أهمُّها كنيسة القيامة في القدس، وكنيسة المهد في بيت لحم.
على الرغم من منح الرومان الامتيازات الدينيّة لليهود، إلَّا أنَّه كان هناك احتكاكٌ بين الطرفين، وأدَّى ذلك إلى ثورة اليهود عامَ ستَّةٍ وستّين (66) ميلاديّة، والتي تمَّ إخمادها على يد طيطوس الرومانيّ، ثمَّ قامت ثورة أخرى عام سبعين (70) ميلاديَّة، وتمَّ سحقها أيضًا، وعلى إثرها تمَّ منع اليهود من دخول القدس والسكن فيها بل الدنوّ منها، وبذلك انتهت صلة اليهود بفلسطين حوالي ألفي عام من الزمان.
وهكذا نجد أنَّ اليهود لم يدخلوا فلسطين، إلَّا في فترة متأخِّرة من الزمن ولم يحكموا البلاد إلَّا مدّة قصيرة.
ومن الخطأ اعتبار أنَّ اليهود عرق أو جنس متناسق، بل كانوا خليطًا عرقيًّا متناثرًا، وقد ساهم في ذلك اعتناق الخزر وشعوب أخرى للديانة اليهوديّة، وكانوا عبارة عن مجموعة إنسانيّة لها ظروف اجتماعيّة ووظيفيّة واقتصاديّة عبر القرون، وفقدوا لغتهم المشتركة، فأخذوا يتكلَّمون لغاتٍ ولهجاتٍ مختلفة حسب الموقع الجغرافيّ الذي يسكنون فيه.
واليهود الحاليُّون ليسوا عنصرًا متجانسًا، وبالتالي فإنَّ الحنين الصهيونيّ إلى فلسطين والعودة إلى جبل القدس "صهيون" إنَّما هو خرافة ووهم، فضلًا عن أنَّ عرب فلسطين هم السكانُ الشرعيُّون للبلاد منذ أقدم الأزمان؛ ذلك أنَّ صلة العرب بفلسطين لم تنقطع منذ أن كانت تعرف بأرض كنعان.
ظهرت الدعوة الإسلاميّة، ودخل المسلمون بيت المقدس فاتحين، وانهارت جيوش الرومان، وخرج أهل القدس يستقبلون الفتح الإسلاميّ فرحين بالخليفة عمر بن الخطَّاب والعرب المسلمين الذين حرصوا على حقن الدماء، وحماية الصغير والكبير وكانت روح التسامحِ الإسلاميِّ تسود ربوع فلسطين.
وتُعَدُّ القدس أقدس بقاع الأرض عند المسلمين؛ فإليها أسري بالرسول صلَّى الله عليه وسلَّم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وشيَّد الخليفة عمر مسجدًا بالقرب من الصخرة التي صعد منها النبيُّ ليلة الإسراء، كما وارى ثرى فلسطين ألوفًا من الصحابة وتابعيهم أشهرهم أبو عبيدة بن الجرَّاح قائد الجيوش الإسلاميّة التي فتحت فلسطين.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى المسيحيّين العرب في فلسطين؛ فهي كعبتهم وقبلتهم؛ ففيها ولد المسيح عليه السلام، وفيها عاش طَوال حياته ومنها انطلقت الديانة المسيحيّة.
وقد تميَّزت معاملة المسلمين لليهود بالتسامح، فقد نظر الإسلام نظرة احترام للدين اليهوديّ، وكان من جرّاء هذه النظرة المتسامحة أن ازدهرت أحوال اليهود في العالم الإسلاميّ بأقطاره المختلفة، فبرز منهم العلماء والكتّاب والمترجمون والماليّون. كما كانت الديار الإسلاميّة دومًا ملجأً آمنًا لليهود يلجؤون إليه هربًا من الاضطهاد الأوروبيّ كما حدث بعد سقوط الأندلس وهروب اليهود لدول المغرب العربيّ حيث قوبلوا بالتسامح والمعاملة الكريمة.
انتقل اليهود للحياة في أوروبا، وكانوا يعاملون الشعب الأوروبيّ بالربا الذي يقوم على استغلال حاجة الفقراء إلى المال ممَّا كان يعرّضهم لانتفاضات دمويّة. وقد أدَّت سلسلة الأحداث التي تطوَّرت في بعض المناطق إلى حرمانهم من حقِّهم في وراثة الأراضي ومن الوصول إلى وظائف الدولة.
ثمّ يوضّح الكاتب أطماع الغرب بدولة فلسطين، فيشير إلى أنَّها قديمة العهد نظرًا لما يمثِّله موقع فلسطين الجغرافيّ من أهميّة اقتصاديّة وعسكريّة ودينيّة، ولقد استعاد الغرب اهتمامه بالمنطقة العربيّة بعد احتلال بريطانيا للهند في القرن السابع عشر(17)، والواقع أنَّ اهتمام بريطانيا بفلسطين لم يقتصر على التأمين التجاريّ للطرق للهند بل كانت بريطانيا تريد أن تحتفظ بالمنطقة لحساب نفوذها.
ولم يكن عدد اليهود في فلسطين عام ألفٍ وثَمانِمِئةٍ وتِسعةٍ وثلاثين ميلاديًّا (1839م) يتجاوز تسعةَ آلافٍ وسَبعِمئةِ نسمة (9700)، وكانوا موزَّعين بين القدس والجليل وصفد وطبريّة، حسب تقرير نائب القنصل البريطانيّ نفسه في ذلك الوقت. ولقد لاحظ أوَّل قنصل بريطانيّ في القدس مدى التسامح الدينيّ السائد مع اليهود لا سيَّما بين المسلمين.
وقد عملت بريطانيا صاحبة الأطماع الاستعماريّة على تشجيع استيطان يهود العالم لفلسطين بهدف إقامة حاجز بشريّ استعماريّ يحول دون توحُّد دول المنطقة، وذلك حفاظًا على استمرار السيطرة الأجنبيّة على مُقَدَّرات الوطن العربيّ. وقد تبنَّى تلك الأفكار أبرز رجال السياسة البريطانيّة مثل بالمرستون "رئيس وزراء بريطانيا" وديزرائيلي وتشرشل وبلفور وغيرهم.
في ظلّ أجواء الاضطهاد الأوروبيّ لليهود، ظهرت فكرة الصِّهيونِيَّة التي بدأت تنادي بإنشاء وطنٍ قوميٍّ لليهود، ولكنَّ تلك الفكرة ظلَّت في معزل عن الجماهير، حتَّى عامِ ألفٍ وثَمانِمِئةٍ وواحدٍ وثمانين ميلاديًّا (1881م) عندما اضطرَّت أعدادٌ كبيرة منهم إلى النزوح من روسيا على إثر المجازر التي وقعت ضدَّهم بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني.
وبدأت الحركة الصِّهيونِيَّة عندها في جمع المال ومحاولة شراء بعض الأراضي الزراعيّة المعزولة في فلسطين بغرض استصلاحها. ورغم كلّ تلك المحاولات لم يدخل فلسطين عام ألفٍ وثَمانِمِئةٍ واثنَينِ وثمانين ميلاديًّا (1882م) إلَّا عشرون مستعمِرًا يهوديًا شكَّلوا طليعة الهجرة الأولى التي كادت أن تنتهي بالفشل لولا الدعم الماليّ الخارجيّ لإنقاذهم.
وبقيت الحركة الصِّهيونِيَّة مبعثرة تفتقر إلى التنظيم الشامل والخطّة الواضحة إلى أن تمكَّن هرتزل من عقد المؤتمر الصهيونيّ الأوَّل في مدينة بازل السويسريّة في السابع والعشرين من آب عام ألفٍ وثَمانِمِئةٍ وسبعةٍ وتِسعينَ ميلاديًّا (1897م)، وقد أصدر المؤتمر توصيّاتٍ بتوحيد جهود الجمعيّات الصِّهيونِيَّة حول العالم لتنظيم هجرة اليهود إلى فلسطين، وتوفير الدعم الماليّ والسياسيّ والمعرفيّ لهم، ومحاولة التحالف مع القوى العالميَّة في سبيل تحقيق تلك الأهداف.
ولم تكن الحركة الصِّهيونِيَّة مجرَّد أداةٍ في يد دولة إمبرياليّة معيَّنة، بل كانت حركة استعمار في حدّ ذاتها موالية للإمبراياليّة العالميّة ودولها المختلفة، وهي على استعداد لتغيير التحالفات حين يقتضي الأمر ذلك، كما تحالفوا مع الولايات المتَّحدة بعد ضعف بريطانيا في نهاية الحرب العالميَّة الثانيَّة.
وقد كان الاستعمار البريطانيّ بالتعاون مع الحركة الصِّهيونِيَّة أداةً لخلق قوميّة لليهود وبعث لغتهم الميّتة، على حساب تدمير الشعب الفلسطينيّ وتشريده من دياره وقتل قوميَّته ومحوِها من التاريخ.
وقد حاول هرتزل في سبيل إنشاء الوطن اليهوديّ التواصل مع السلطان العثمانيّ، أو الاستعانة بحلفائه في ألمانيا للضغط عليه، أو حتَّى من خلال رشوة بعض المقرّبين من السلطان، لكنَّ جهودَه كلَّها باءت بالفشل.
وتواصل هرتزل بعد ذلك مع الساسة في بريطانيا، وقد لاقى سعيه قبولًا لاتِّفاق الكثير من الأهداف الاستعماريّة مع المشروع الصهيونيّ، ولكنَّ مشروعَه لم ينطلق إلى حيّز التحقيق حتَّى توفِّي عامَ ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وأربعةٍ ميلاديًّا (1904م).
وعلى إثر وفاة هرتزل اتَّجهت المنظَّمة الصِّهيونِيَّة إلى تبنِّي وجهة نظر "الصهيونيِّين العمليِّين" الداعية للبدء الفوريِّ في تنظيم الهجرة إلى فلسطين والاستيلاء على الأراضي وإقامة المزارع والمصانع وذلك بشكلٍ تدريجيٍّ منظَّم. وقد تطوَّر الأمر لإنشاء تنظيمات مسلَّحة شكَّلت عصابات الصِّهيونِيَّة العسكريّة فيما بعد.
وباستمرار حملات الهجرة ارتفع عدد اليهود إلى خمسةٍ وثمانين ألفًا عامَ ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وأربعةَ عشرَ ميلاديًّا (1914م)، وهي نسبة ضئيلة جدًّا مقارنة بالعرب.