ازداد التوتّر بين العرب واليهود منذ عام ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وخمسةٍ وثلاثين ميلاديًّا (1935م)وذلك بعد أن اعترض الصهاينة على إنشاء مؤسّسات للحكم الذاتيّ في فلسطين.
اشتعلت شرارة الثورة بسبب حادثه بسيطة نسبيًّا وهي منع مقاول يهوديّ تشغيل الفلسطينيّين في بناء ثلاث مدارس في مدينة يافا، ولكنّها قابلت نارًا تغلي في الصدور على الظلم الذي استمرّ عدّة سنوات، فاشتعلت شرارة الثورة وبدأت الاشتباكات وقتل وأصيب فيها العشرات من العرب في بدايتها.
وعُقد بعد ذلك مؤتمر اللجان الوطنيّة الفلسطينيّة وأعلنوا من خلاله هدف النضال الفلسطينيّ وهو استقلال فلسطين ضمن إطار الوحدة العربيّة، وطالبت لجنة المواصلات العربيّة بانضمام موظَّفي الحكومة العرب إلى الإضراب.
ثمَّ اشتعلت الثورة في الريف الفلسطينيّ ورفض السكان دفع الضرائب، وتمَّت زيادة وتيرة العنف من قبل المحتلّ. ثمَّ تمَّ تصعيد الكفاح المسلَّح ضدّ الاحتلال، وزاد الضغط على الهيئات العربيّة التي لم تنضمَّ إلى الإضراب مثل هيئة البلديّة وموظَّفي الحكومة وعُمّال مرفأ حيفا العرب.
وكان التعسّف البريطانيّ هو السبب في زيادة الثورة التهابا، حيث قام المسلَّحون الفلسطينيّون بمهاجمة القوّات البريطانيّة ردًّا على استعمال العنف ضدّ وسائل التعبير السلميّة.
وقامت بريطانيا بمجموعة من الإجراءات التأديبيّة وعدّلوا نظام الطوارئ بحيث أصبح في إمكانهم إصدار أحكام الإعدام للمقاومين الفلسطينيّين وإلقاء القبض عليهم بصورة جماعيّة.
وكان الثوّار الفلسطينيّون يعتمدون على رجال لهم في المدينة يزوّدونهم بالطعام والمعلومات وكانت لهم تشكيلات عسكريّة مختلفة، أوّلها المجاهدون المتفرّغون الذين يعتصمون بالجبال ويقومون بنسف خطوط البترول ومجابهة قوّات الجيش البريطانيّ.
والفئة الثانية من المجاهدين، هم الفدائيّون الذين يعيشون في المدينة ولكنّهم ينجزون أعمالًا عسكريّة محدَّدةً بناءً على طلب القيادة.
والفئة الثالثة وهم الأكثر، هم عدد من الفلاحين العاديّين الذين يحملون السلاح وينقذون المجاهدين في لحظة وقوع معركة في منطقتهم.
وقد قرّر مجلس الوزراء البريطانيّ سحق المقاومة العربيّة من خلال تعزيز القوَّات البريطانيّة في فلسطين بفرقة كاملة وأصدروا بيانًا عنيفًا تحدّثوا فيه عن التحدّي المباشر لسلطة الحكومة البريطانيّة في فلسطين. وتشكلَّت بعد ذلك اللجنة العربيّة العليا التي عملت على قيادة الثورة وتوجيهها ضدّ الاحتلال.
وكانت بريطانيا قد وعدت بعض ملوك وقيادات الدول العربيّة بأن تعمل على معالجة الأزمة في فلسطين، وطلبت منهم التدخّل لوقف حالة الثورة والإضراب العامّ.
وأصدرت القيادات العربيّة بيانًا مشتركًا تدعو فيه إلى لهدوء في فلسطين، والاعتماد على النيّات الطيّبة لصديقتنا بريطانيا العظمى التي وعدت أنَّها ستحقّق العدالة.
وفي اليوم التالي لبيان الملوك والحكّام العرب، قامت اللجنة العربيّة العليا بالحصول على موافقة اللجان القوميّة ودعت الأمّة العربيّة في فلسطين للعودة إلى الهدوء ووضع حدّ للإضراب والاضطرابات الحاصلة نتيجة للثورة.
وطالبت اللجنة العربيّة العليا بإلغاء الانتداب البريطانيّ وإقامة حكم وطنيّ مستقلّ وقالت إنَّ الأسباب الكامنة وراء ثورة عامِ ألفٍ وتِسعِمِئةٍ وستَّةٍ وثلاثين ميلاديًّا (1936م) تعود إلى رغبة العرب في الوصول إلى الاستقلال وخوفهم من إقامة وطن قوميّ لليهود في بلادهم.
وكانت حصيلة هذه الثورة طبقًا للأرقام مقتل ستةَ عشرَ رجلَ بوليس (16)، واثنين وعشرين جنديًّا فقط (22)، وإصابة مئة وأربعة من رجال البوليس (104) ومئةٍ وثمانيةٍ وأربعين عسكريًّا (148) بجروح، يضاف إلى ذلك مقتل ثمانين يهوديًّا (80)، وجرح نحو ثلاثِمئةٍ وثمانيةِ أشخاص (308) منهم، أمَّا العرب فتشير الإحصاءات إلى مقتل مئةٍ وخمسةٍ وأربعين رجلًا (308)، وإصابة ثمانِمئةٍ وأربعة (804) بجروح.
وأيقن العرب أنَّ بريطانيا لن تستطيع إيقاف الهجرة اليهوديّة، وأنَّها ترتبط ارتباطًا مصيريًّا بسياسة موالية للصهيونيّة في فلسطين.
وبعد ذلك صدر تقرير اللجنة الملكيّة البريطانيّة الذي أوصى بالتخلِّي عن الانتداب وتقسيم البلاد في فلسطين إلى ثلاثة أقسام: دولة عربيّة تضمّ تلك الأجزاء التي يقطنها أكثريّة من العرب، ودولة يهوديّة تضمّ الأجزاء التي تسكنها أكثريّة من اليهود، ومناطق معيّنة تضمّ تلك الأجزاء ذات الأهميّة الإستراتيجيّة أو الدينيّة الخاصَّة، وهذه النوعيّة من المناطق تبقى تحت الانتداب البريطانيّ. وقد رفض العرب هذا النوع من التقسيم لأنّهم عارضوا أصلًا خلق دولة يهوديّة فوق أرض عربيّة.
وقد تمَّ عقد مؤتمر في بلودان (سوريا)، اجتمع فيه لفيف من الوطنيّين العرب، وطالبوا فيه بإلغاء تصريح بلفور والانتداب وعقد معاهدة يحقّق بموجبها الفلسطينيّون الاستقلال ووقف الهجرة اليهوديّة، وإذا أصرّت بريطانيا على تنفيذ خطّتها وتقسيم فلسطين تعلن الدول العربيّة مقاطعة البضائع البريطانيّة واليهوديّة.
ولم تزدد بريطانيا إلَّا تعنتا، ممَّا أدَّى إلى اندلاع ثورة عنيفة في عام 1938م وتشكيل لجنة مركزيّة للجهاد ضمَّت كبار القادة.
وكان الإنجليز يرتكبون الفظائع بطريقة وحشيّة ضدّ الثوّار المعتصمين بالجبال والقرى، ولكنَّ الثورة استمرَّت في سعيها للضغط على الإنجليز. ونتيجة لهذه الثورة العارمة، تمَّ إلغاء مشروع لجنة التقسيم باعتباره مشروعًا غير عمليّ ورحَّب العرب الفلسطينيّون بالتخلِّي عن التقسيم، وكانت إنجلترا بهذا التخلِّي المؤقّت تحاول تهدئة الأوضاع مع العرب تحسُّبًا لاحتمال نشوب حربٍ قريبة مع ألمانيا.
ولم توافق إنجلترا رغم ذلك على اتِّفاقٍ لاستقلال فلسطين، فقد كان العرب يمثِّلون الأغلبيّة (ثلثَي السكان)، والاستقلال في هذا الوقت يعني سيطرتهم على البلاد، وهو ما يتعارض مع الأهداف الاستعماريّة الكبرى.
وبعد تراجع بريطانيا عدّة خطوات قليلة للخلف تداركًا لأزمتها، لجأ اليهود لحليف جديد هو الولايات المتَّحدة، وبدئوا في مقاومة مسلّحة ضدّ الإنجليز حيث بدئوا بحملة من تفجير القنابل واستعمال السلاح لفرض استمرار معدّل الهجرة المرتفع، وتمرير مخطّط التقسيم.
وبذلك، لاقت ثورة فلسطين الكُبرى نهايتها بهدوءٍ يكاد يكون مُفجعًا.