الباب السابع عشر: في درجات الجَنَّة

في «المسند» من حديث أبي سعيدٍ -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ قال: «إنَّ في الجَنَّة مئة درجةٍ، ولو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنّ لوسعتهم». وهذا صريحٌ في أنّ دَرَج الجَنَّة تزيد على مئة درجةٍ، والله أعلم.

وفي حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- الذي رواه البخاريّ في صحيحه عن النبيّ ﷺ قال: «إنَّ في الجنَّةِ مِئَةَ درجةٍ أعدَّهَا اللَّه للمُجَاهِدينَ في سبيلِ اللَّه مَا بيْن الدَّرجَتَينِ كَمَا بيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ»، فإمّا أن تكون هذه المئة درجة من جملة دَرَج الجَنَّة، وإما أن تكون نهايتها هذه المئة، وفي ضمن كل درجةٍ دَرَج دونها.

 

الباب الثامن عشر: في ذكر أعلى درجاتها واسم تلك الدرجة

روى مسلم في «صحيحه» من حديث عبد الله بن عمرِو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّه سمع رسول الله ﷺ يقول: «إذا سمعتُم المؤذن فقولوا مثلَ ما يقول، ثمّ صلوا عليَّ، فإنّه مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا، ثمّ سلُوا الله لي الوسيلة، فإنّها منزلةٌ في الجَنَّة لا تنبغي إلّا لعبدٍ من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل ليَ الوسيلة حلَّتْ عليه الشفاعة». وهذه الرواية تذكر (الوسيلة) كأعلى درجات الجَنَّة وتنصُّ على اسمِها. وقد سُمّيت درجة النبيِّ ﷺ الوَسيلةَ؛ لأنّها أقرب الدرجات إلى عرش الرب تبارك وتعالى، وهي أقرب الدرجات إلى الله، وأصل اشتقاق لفظ: «الوسيلة» من القُرْب، وهي فَعِيلَة: مِن (وَسَلَ) إليه، أي تقرَّب إليه.

 

الباب التاسع عشر: في عرض الرَّبِّ تعالى سلعته الجَنَّة على عباده وثمنِها الذي طلبه منهم وعقْدِ التبايع الذي وقع بين المؤمنين وبين ربِّهم

قال تعالى مفسِّرًا هذا الأمر: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: ١١١]، فجعل الله سبحانه وتعالى الجَنَّة ثمنًا لنفوس المؤمنين وأموالهم، بحيث إذا بذلوها فيه استحقُّوا الثمن، وعَقَد معهم هذا العقدَ، وأكَّده بأنواع التأكيد المختلفةٍ بهذه الآية.

 

الباب العشرون: في طلب أهل الجَنَّة لها من ربِّهم، وطلبها لهم، وشفاعتِها فيهم إلى ربِّها عزَّ وجلَّ

تطلب الجَنَّة أهلها بالذّات، وتجذبهم إليها، والنار كذلك، وقد أمرنا رسول الله ﷺ أن لا نزالَ نذكرهما ولا ننساهما، وجاء ذلك في حديث الليث عن معاويةَ بن صالح عن عبد الملك بن أبي بشير يرفع الحديث: «ما من يومٍ إلَّا والجَنَّة والنَّار تسألانِ، تقول الجَنَّة: يا ربِّ قد طابت ثماري، واطَّردت أنهاري، واشتقتُ إلى أوليائي، فعجِّل إليَّ بأهلي».

أما طلبُ أهل الجَنَّة لها من ربّهم؛ فقد جاء ذلك في حكايةٍ عن أولي الألباب من عباد الله وهو قولهم: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} [آل عمران: ١٩٤]، والمعنى: وآتنا ما وعدتنا على ألسنة رُسُلِك من دخول الجَنَّة.

 

الباب الحادي والعشرون:  في أسماء الجَنَّة ومعانيها واشتقاقاتها

الجَنَّة لها عدّة أسماء باعتبار صفاتها، ومنها:

  1. الجَنَّة: وهو الاسم العامّ المُتناوِل لتلك الدار، وما اشتملتْ عليه من أنواع النعيم واللذة والبهجة وقرَّة الأعين، وأصل اشتقاق اللفظ من السَّتر والتغطية.
  2. دارُ السَّلام: وقد سمَّاها الله تعالى بهذا الاسم في قوله في سورة [الأنعام: ١٢٧]: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، وهي أحقّ بهذا الاسم؛ فإنّها دارُ السَّلامة من كل بليةٍ وآفةٍ ومكروه، وهي دار الله، واسمه سبحانه وتعالى السَّلام الذي سلَّمها وسلَّم أهلها.
  3. دارُ الخُلد: وسُمّيت بذلك لأن أهلها لا يظعنون (يرحلون) عنها أبدًا، كما قال تعالى في سورة [ص: ٥٤]: {إِنَّ هَٰذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ}.
  4. دارُ المُقامة: وجاء ذلك في قوله تعالى في سورة [فاطر: ٣٤-٣٥]: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ۖ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}.
  5. جَنَّة المأوى: وجاء ذلك في قوله تعالى في سورة [النجم: ١٥]: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ}.
  6. جنَّات عدن: قيل إنّه اسم لجنةٍ من الجنَّات، ولكنَّ الصحيحَ أنّه اسم لجُملة الجنّات؛ فكلّها جنّات عدن، لقوله تعالى في سورة [مريم: ٦١]: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْب}.
  7. دارُ الحيوان: ورد ذلك في قوله تعالى في سورة [العنكبوت: ٦٤]: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}، أي دار الحياة التي لا موت فيها.
  8. الفردوس: وهو اسمٌ يُقال على جميع الجنة، ويُقال على أفضلها وأعلاها؛ كأنّها أحق بهذا الاسم من غيره من الجنات، وقد جاء هذا الاسم في قوله تعالى في سورة [المؤمنون: ١١]: {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
  9. جنّات النعيم: وهذا أيضًا اسم جامعٌ لجميع الجنّات، جاء في قوله تعالى في سورة [لقمان: ٨]: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}.
  10. المَقام الأمين: وجاء ذلك في قوله تعالى في سورة [الدخان: ٥١]: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}.

 

الباب الثاني والعشرون:  في عدد الجنَّات، وأنَّها نوعان: جنتان من ذهب، وجنتان من فضة

في «الصحيحين» من حديث أبي موسى الأشعريّ -رضي الله عنه- عن رسول الله ﷺ قال: «جنتان من ذهبٍ آنيتُهما وحليتُهما وما فيهما، وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياء على وجهه في جَنَّة عدنٍ».

 

الباب الثالث والعشرون:  في خلق الرَّبِّ تبارك وتعالى بعض الجِنَان بيده وغرسها بيده تفضيلًا لها عن سائر الجنَّات

يُذكَر في ذلك عن أنسِ بن مالك -رضي الله عنه- أنّ رسول الله ﷺ قال: «إنَّ الله بَنَى الفردَوس بيده، وحَظَرَها على كلّ مشركٍ، وكلّ مدمن خَمرٍ سِكِّيرٍ».

وعن أنس عن كعب قال: «لمْ يخلق الله بيده غير ثلاث: خلقَ آدم بيده، وكتب التوراة بيده، وغرس جَنَّة عدْنٍ بيده، ثمّ قال لها: تكلّمي، قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}.

 

الباب الرابع والعشرون: في ذكر خَزَنة الجَنَّة 

سمّى الله سبحانه وتعالى كبير خَزنَة الجَنَّة رِضْوانَ، وهو اسمٌ مشتقٌ من الرِّضا، وسمَّى خازِن النار مالكًا، وهو اسمٌ مشتقٌ من الملك، وهو القوة والشدة حيث تصرّفت حُروفُه.

وقد جاء ذِكر خَزَنة الجَنَّة في قوله تعالى في سورة [الزمر:٧٣]: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ}، والخَزنة: جمع خازن، وهو المُؤْتمَن على الشيء الذي قد استُحفِظه.

 


حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00