مما يُستَدلّ به في ذِكر عدد أبواب الجَنَّة، ما في «الصحيحين»: من حديث أبي حازم عن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنَّ رسول الله ﷺ قال: «فِي الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أبْوَابٍ، فِيهَا بَابٌ يُسَمَّى الرَّيَّانَ، لا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائِمُونَ».
وما في «صحيح مسلم»: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن النبيّ ﷺ قال: «مَا منكُم مِن أحدٍ يتَوضَّأُ فَيُبلغُ أو فَيُسْبغُ الوضوءَ ثمَّ يقولُ: أشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهدُ أنَّ محمَّدًا عبدُه ورَسولُه، إلَّا فُتِحتْ لهُ أبوابِ الجنَّةِ الثمانية يدخُلُ مِن أيِّها شاءَ».
مما ورد في ذكر سعة أبواب الجَنَّة: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: «وُضعتْ بين يدي رسول الله ﷺ قَصْعةٌ من ثريد ولحم، فتناول الذراع -وكان أحبَّ الشاة إليه- فَنَهَس نَهْسَة وقال: أنا سيِّدُ الناس يوم القيامة»، ثمَّ نهس أخرى، وقال: «أنا سيِّد الناسِ يوم القيامة»، فلما رأى أصحابه لا يسألونه قال: «ألا تقولون كيف؟» قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: «يقوم الناسُ لربِّ العالمين فيُسمِعهم الدَّاعي ويَنْفُذُهم البصرُ» فذكر حديث الشفاعة بطوله، وقال في آخره: «فأنطلقُ فآتي تحت العرش، فأقع ساجدًا لربي، فيقيمني ربُّ العالمين مقامًا لم يقمه أحدًا قبلي، ولن يقيمه أحدًا بعدي، فأقول: يا ربِّ أمتي. فيقول: يا محمد أَدخِل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء النَّاس فيما سوى ذلك من الأبواب، والذي نفسُ محمد بيده إنَّ ما بين المصراعين من مصاريع الجَنّة لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو هَجَر ومكة». وفي لفظٍ: «لَكَمَا بين مكة وهَجَر، أو كما بين مكة وبُصْرىٰ».
عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «أنا أوَّلُ من يأخذ بحلْقة باب الجَنَّة ولا فخر».
وفي حديث الشفاعة الطويل: عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «فآخذ بحلْقة باب الجَنَّة فأُقَعْقِعُها».
وهذا صريحٌ في أنّ أبواب الجَنَّة لها بحلْقة (مِقبض) حِسِّية تُقَعْقَعُ وتُحرَّك.
رُوِّيْنَا في «معجم الطبرانيّ»: ما حدَّث به أبو الأسود عن عاصم بن لَقِيط، أنَّ لقيط بن عامر خرج وافدًا إلى رسول الله ﷺ قال: قلتُ يا رسول الله فما الجَنَّة والنَّار؟ قال: لعَمرُ إلهك، إنّ للنَّار سبعة أبواب ما منهنّ بابان إلّا يسير الرَّاكب بينهما سبعين عامًا، وإن للجَنَّة ثمانية أبواب، ما منهنّ بابان إلّا يسير الرَّاكب بينهما سبعين عامًا»، إلى نهاية الحديث.
يُستدَلّ على ذلك من قول الله تعالىٰ: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ ، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ ، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ) [النجم:١٣-١٥] إذ ثبُتَ أن سِدرة المُنتهى فوق السماء، وسُمّيت بذلك؛ لأنّه ينتهي إليها ما ينزل من عند الله فيُقبَضُ منها، وما يصعدُ إليه فيقبضُ منها.
وهناك أثرٌ عن عبد الله بن عمرٍو، قال: «الجَنَّة مطويّة معلّقة بقرون الشمس تنشر في كلّ عامٍ مرَّة، وإنّ أرواح المؤمنين في طير كالزرازير -وهي لون من الطيور - يتعارفون ويرزقون من ثَمر الجَنَّة». وهو قول قد يُتوهّمُ التناقضُ بين أوله وآخره، مع أنه لا تناقضَ فيه؛ فإنَّ الجنَّة المعلّقة بقرون الشمس هي ما يُحدثه اللَّهُ سبحانه بالشمس في كلِّ سنة مرَّة ويخلقه من أنواع الثمار والفواكه والنبات، وإلّا فالجنة التي عرضها السماوات والأرض ليست معلّقةً بقرون الشمس، وهي فوق الشمس وأكبر منها. وقد ثبت في «الصحيحين» عنه ﷺ أنّه قال: «إنَّ الجَنَّة مئة درجةٍ ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرضِ»، وهذا يدلّ على أنّها في غاية العلوّ والارتفاع، والله أعلم.
في الاستدلال على طبيعة مِفتاح الجَنَّة، يمكن الاستشهاد مما روي عن نبيّ الله ﷺ، وما جاء في الأثر بما يلي:
عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله ﷺ : «مِفتاح الجَنَّة شهادةُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ».
وذكَر البخاريّ في «صحيحه» عن وهب بن منبّه أنَّه قيل له: أليس مِفتاح الجَنَّة لا إله إلاّ الله؟ قال: بلىٰ، ولكن ليس من مفتاح إلّا وله أسنانٌ، فإنَّ أتيت بمفتاح له أسنان فُتِحَ لك، وإلّا لمْ يفتح.
وفي «المسند» من حديث معاذِ بن جبل -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «ألَا أدلُّكَ على بابٍ من أبواب الجَنَّة؟ قلتُ: بلىٰ، قال: «لا حولَ ولا قوَّة إلّا باللهِ».
قال الله تعالى في هذا الأمر: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ، كِتَابٌ مَرْقُومٌ ، يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: ١٨-٢١]. ويخبرنا الله تعالى أنّ كتابهم كتاب مرقوم تحقيقًا لكونه مكتوبًا كتابةً حقيقيّةً، وقد خصّ تعالى كتاب الأبرار بأنّه يُكتب ويُوقَّع لهم به بمَشهد المقرَّبين من الملائكة والنبيين وسادات المؤمنين، ولم يذكر شهادة هؤلاء لكِتاب الفجّار؛ تنويهًا بكتاب الأبرار، وما وقّع لهم به، وإشهارًا له، وإظهارًا بين خواصّ خلقه، كما تَكتُب الملوك تواقيع مَن تُعظّمه بين الأمراء وخواصّ أهل المملكة؛ تنويهًا باسم المكتوب له، وإشادةً بذكره، وهذا نوع من صلاة الله سبحانه وتعالى، وملائكته على عبده.
يوحِّد الله سبحانه السبيل إليه -وهو طريق الجَنَّة- ويجمع سبل النار كقوله تعالى: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وصآكم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: ١٥٣].
وقال عزّ وجلّ: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [النحل: ٩] أي: من السُبُل جائر عن القصد: وهي سُبُل الغَيّ.
ويؤكّد ابن مسعود على هذا بقوله: خطَّ لنا رسول الله ﷺ خَطًّا وقال: «هذا سبيل الله، ثمّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن يساره، ثمّ قال: هذه سُبُلٌ على كل سبيل منها شيطانٌ يدعو إليه»، ثمّ قرأ: {وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} الآية [الأنعام: ١٥٣].