• ولمَّا كانت الجِنَانُ درجات بعضها فوق بعض، كانت أبوابها كذلك، وباب الجنَّةَ العالية فوق باب الجنَّة التي تحتها، وكلَّما عَلَت الجنَّة اتَّسعت، فعاليها أوسعُ ممَّا دونه، وسَعَة الباب بحسب وسع الجنَّة، ولعلَّ هذا وجه الاختلاف الَّذي جاء في مسافة ما بين مِصْراعي الباب، فإنَّ أبوابها بعضها أعلى من بعض. ولهذه الأمة بابٌ مختص يدخلون منه دون سائر الأمم، كما في "المسند" من حديث ابن عمر رضي اللَّهُ عنهما عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: "بابُ أُمَّتي الَّذي يدخلون منه الجنَّة عرضه مسيرة الراكب ثلاثًا، ثمَّ إنَّهم لينْضغِطُون عليه حتَّى تكاد مناكبهم تزول". وفيه: من حديث أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه عن النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم-: "أتاني جبريلُ، فأخذ بيدي، فأراني باب الجنَّة الَّذي تدخلُ منه أمَّتي".

 

  •  قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [ التوبة: 112]  وفُسِّرت السِّياحة: بالصيام، وفُسِّرت: بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت: بالجهاد، وفُسِّرت: بدوام الطاعة. والتحقيق فيها: أنَّها سياحة القلب في ذكر اللَّه ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه، ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعالِ، وكذلك وصف نساء النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّلاتي لو طلق أزواجه بدَّله بهن، بأنَّهنَّ {سَائِحَاتٍ} [التحريم: ٥] وليست سياحتهن جهادًا، ولا سفرًا في طلب العلم، ولا إدامة صيام، وإنَّما هي سياحة قلوبهنَّ في محبة اللَّه وخشيته والإنابة إليه وذكره. وتأمَّل كيف جعل سبحانه التوبة والعبادة قرينين: هذه ترك ما يكره، وهذه فعل ما يحب. والحمد والسياحة قرينين: هذا الثناء عليه بأوصاف كماله، وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذا سياحة القلب في حُبَّه وذكره وإجلاله.

 

  • وقد اتخذ الرب تعالى من الجنَّات دارًا اصطفاها لنفسه، وخصها بالقرب من عرشه، وغرسها بيده، فهي سيدة الجنان، واللَّهُ سبحانه يختار من كلِّ نوع أعلاه وأفضله، كما اختار من الملائكة: جبريل، ومن البشر: محمدًا -صلى اللَّه عليه وسلم-، ومن السماوات: العُليا، ومن البلاد: مكة، ومن الأشهر: الحُرُم، ومن الليالي: ليلة القَدْر، ومن الأيام: يوم الجمعة، ومن الليل: وسطه، ومن الأوقات: أوقات الصلوات، إلى غير ذلك، فهو سبحانه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: ٦٨].

 

  • عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنَّة من أمتي زمرةٌ: هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ الأسدي فرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أنْ يجعلني منهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اجعله منهم"، ثمَّ قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهُ أنْ يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عُكَّاشة".

     

  • والأزواج: جمع زوج، والمرأة: زوجُ الرجل، وهو زوجها، هذا هو الأفصحُ، وهو لغة قريش، وبها نزل القرآن كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: ٣٥] ومن العربِ من يقول: زوجة، وهو نادرٌ، لا يكادون يقولونه.

 

  • وقال تعالى في وصفهنَّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: ٧٢]. المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: "خُدِّرْنَ في الخيام وكذلك قال مقاتل: "محبوسات في الخيام".

وفيه معنى آخر: وهو أن يكون المراد: أنهن محبوسات على أزواجهن، لا يردن غيرهم، وهم في الخيام، وهذا معنى قول من قال: قُصِرْن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، ذكره الفراء.

قلتُ: وهذا معنى {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: ٤٨] لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات.

 

  • عن أنس رضي اللَّه عنه، قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ، قال: فيشتاقُ الإخوان بعضهم إلى بعض، فيسير سريرُ هذا إلى سرير هذا، وسرير هذا إلى سرير هذا، حتَّى يجتمعا جميعًا، فيقول أحدهما لصاحبه: تعلمُ متى غفر اللَّهُ لنا؟ فيقول صاحبه: يوم كُنَّا في موضع كذا وكذا، فدعونا اللَّه فغفر لنا".

 

  • وقد أخبر سبحانه عن أعلم الخلق به في زمانه، وهو كليمه ونجيُّهُ وصفيُّهُ من أهل الأرضِ، أَنَّه سأل ربه تعالى النظر إليه، فقال له ربُّه: {لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} [الأعراف: ١٤٣]، وهذا يدّل على أنَّ اللَّه سبحانه لم ينكر عليه سؤاله، ولو كان محالًا لأنكره عليه، ولهذا لمَّا سأل إبراهيم الخليل ربه تعالى أنْ يريه كيف يحيى الموتى، لم ينكر عليه، ولمَّا سألَ عيسى ابن مريم ربَّه إنزالَ المائدة من السماء لم ينكر سؤاله، ولمَّا سأل نوحٌ ربَّهُ نجاةَ ابنهِ أنكر عليه سؤاله وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} [هود: ٤٦ - ٤٧].

 

  • عن صهيب قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إذا دخل أهل الجنَّة الجنَّةَ قال: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تُبيِّض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنَّة وتنجِّنا من النَّارِ؟ قال: فيكشفُ الحجابَ، فما أُعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربِّهم عزَّ وجلَّ، ثمَّ تلا هذه الآية: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: ٢٦] "

 

  • قال مالك بن أنس: "النَّاسُ ينظرون إلى اللَّهَ عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأعينهم"، وقال الحارث بن مسكين: حدثنا أشهب قال: سُئِلَ مالك عن قوله عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: ٢٢ - ٢٣] أتنظرُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، فقلتُ إنَّ أقوامًا يقولون: تنتظرُ ما عنده، قال: بل تنظر إليه نظرًا، وقد قال: موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين: ١٥]. وذكر الطبري وغيره أنَّهُ قيل لمالك: "إنَّهم يزعمون أنَّ اللَّهَ لا يُرى، فقال مالك: السيف السيف" 

 

  • عن أبي أُمامة رضي اللَّه عنه قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إنَّ آخر رجلٍ يدخلُ الجنَّة رجل يتقلَّب على الصراط ظَهْرًا لبطن، كالغلام يضربه أبوه وهو يفرُّ منه، يعجز عنه عمله أنْ يسعى، فيقول: يا رب بلِّغ بي الجنَّة، ونجِّني من النَّارِ، فيوحي اللَّه تبارك وتعالى إليه: عبدي إنْ أنا نجَّيتك من النَّارِ وأدخلتك الجنَّة؛ أتعترفُ لي بذنوبك وخطاياك؟ فيقول العبد: نعم يا ربِّ وعزتك وجلالك لئن نجيتني من النَّارِ لأعترفنَّ بذنوبي وخطاياي فيجُوْز الجِسْرَ، ويقول العبد فيما بينه وبين نفسه: لئن اعترفت له بذنوبي وخطاياي ليردني إلى النَّارِ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي اعْترِفْ لي بذنوبك وخطاياك اغفرها لك وأدخلك الجنة، فيقول العبد لا وعزَّتك وجلالك ما أذنبتُ ذنبًا قطُّ ولا أخطأتُ خطيئةً قطُّ، فيوحي اللَّه إليه: عبدي إنَّ لي عليك بَيِّنة فيلتفت العبد يمينًا وشمالًا فلا يرى أحدًا، فيقول: يا ربِّ أرني بيِّنتك فيستنطق اللَّه جلده بالمُحقَّرات، فإذا رأى ذلك العبد يقول: يا رب عندي وعزَّتك العظائم فيوحي اللَّه إليه: عبدي أنا أعرف بها منك اعترف لي بها أغفرها لك، وأدخلك الجنَّة، فيعترف العبد بذنوبه فيدخل الجنَّة، ثمَّ ضحك رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- حتَّى بدت نواجذه يقول: "هو أدنى أهل الجنَّة منزلة فكيف بالَّذي فوقه؟ "

 

  • إنَّ الإيمان قول وعمل ونِيَّة وتمسُّك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويُسْتثنى في الإيمان غير أنْ لا يكون الاستثناء شكًّا، إنَّما هي سنَّةٌ ماضيةٌ عند العلماء. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنَّه يقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه؟ أو مؤمن أرجو؟، أو يقول: آمنت باللَّه وملائكته وكتبه ورسله؟ ومن زعم أنَّ الإيمان قولٌ بلا عمل؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ الإيمان هو القول والأعمال شرائع؛ فهو مرجيء. ومن زعم أنَّ الإيمان يزيدُ ولا ينقص، فقد قال يقول المرجئة، ومن لم يَرَ الاستثناء في الإيمان؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ. ومن زعم أنَّ المعرفة تقع  في القلب وإن لم يتكلم بها؛ فهو مرجئ.

 

  • والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره = من اللَّه عز وجل، قضاءٌ قضاه على عباده، وقدرٌ قدَّره عليهم، لا يعدو أحدٌ منهم مشيةَ اللَّه عز وجل ولا يجاوزه قضاؤه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قَدَّر عليهم، وهو عدل منه جل ربنا وعزَّ.

    والزنى والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك والمعاصي كلها بقضاء اللَّه وقدرٍ من اللَّه، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللَّه حُجَّة، بل للَّه الحجة البالغة على خلقه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣].


حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح
ابن قيم الجوزية
skip_next forward_10 play_circle replay_10 skip_previous
volume_up
0:00
0:00