قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [ التوبة: 112] وفُسِّرت السِّياحة: بالصيام، وفُسِّرت: بالسفر في طلب العلم، وفُسِّرت: بالجهاد، وفُسِّرت: بدوام الطاعة. والتحقيق فيها: أنَّها سياحة القلب في ذكر اللَّه ومحبته والإنابة إليه والشوق إلى لقائه، ويترتب عليها كل ما ذكر من الأفعالِ، وكذلك وصف نساء النَّبي -صلى اللَّه عليه وسلم- الَّلاتي لو طلق أزواجه بدَّله بهن، بأنَّهنَّ {سَائِحَاتٍ} [التحريم: ٥] وليست سياحتهن جهادًا، ولا سفرًا في طلب العلم، ولا إدامة صيام، وإنَّما هي سياحة قلوبهنَّ في محبة اللَّه وخشيته والإنابة إليه وذكره. وتأمَّل كيف جعل سبحانه التوبة والعبادة قرينين: هذه ترك ما يكره، وهذه فعل ما يحب. والحمد والسياحة قرينين: هذا الثناء عليه بأوصاف كماله، وسياحة اللسان في أفضل ذكره، وهذا سياحة القلب في حُبَّه وذكره وإجلاله.
عن أبي هريرة رضي اللَّهُ عنه قال: سمعت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- يقول: "يدخل الجنَّة من أمتي زمرةٌ: هم سبعون ألفًا، تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر"، فقام عُكَّاشة بن مِحْصَنٍ الأسدي فرفع نمرة عليه، فقال: يا رسول اللَّه، ادع اللَّه أنْ يجعلني منهم، فقال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: "اللهم اجعله منهم"، ثمَّ قام رجلٌ من الأنصار فقال: يا رسول اللَّه، ادعُ اللَّهُ أنْ يجعلني منهم، فقال: "سبقك بها عُكَّاشة".
والأزواج: جمع زوج، والمرأة: زوجُ الرجل، وهو زوجها، هذا هو الأفصحُ، وهو لغة قريش، وبها نزل القرآن كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} [البقرة: ٣٥] ومن العربِ من يقول: زوجة، وهو نادرٌ، لا يكادون يقولونه.
وقال تعالى في وصفهنَّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: ٧٢]. المقصورات: المحبوسات. قال أبو عبيدة: "خُدِّرْنَ في الخيام"، وكذلك قال مقاتل: "محبوسات في الخيام".
وفيه معنى آخر: وهو أن يكون المراد: أنهن محبوسات على أزواجهن، لا يردن غيرهم، وهم في الخيام، وهذا معنى قول من قال: قُصِرْن على أزواجهن فلا يردن غيرهم، ولا يطمحن إلى من سواهم، ذكره الفراء.
قلتُ: وهذا معنى {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: ٤٨] لكن أولئك قاصرات بأنفسهن، وهؤلاء مقصورات.
قال مالك بن أنس: "النَّاسُ ينظرون إلى اللَّهَ عزَّ وجلَّ يوم القيامة بأعينهم"، وقال الحارث بن مسكين: حدثنا أشهب قال: سُئِلَ مالك عن قوله عزَّ وجلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ، إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [القيامة: ٢٢ - ٢٣] أتنظرُ إلى اللَّهِ عزَّ وجلَّ؟ قال: نعم، فقلتُ إنَّ أقوامًا يقولون: تنتظرُ ما عنده، قال: بل تنظر إليه نظرًا، وقد قال: موسى: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: ١٤٣]، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: ١٥]. وذكر الطبري وغيره أنَّهُ قيل لمالك: "إنَّهم يزعمون أنَّ اللَّهَ لا يُرى، فقال مالك: السيف السيف"
إنَّ الإيمان قول وعمل ونِيَّة وتمسُّك بالسنة، والإيمان يزيد وينقص، ويُسْتثنى في الإيمان غير أنْ لا يكون الاستثناء شكًّا، إنَّما هي سنَّةٌ ماضيةٌ عند العلماء. فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ فإنَّه يقول: أنا مؤمن إن شاء اللَّه؟ أو مؤمن أرجو؟، أو يقول: آمنت باللَّه وملائكته وكتبه ورسله؟ ومن زعم أنَّ الإيمان قولٌ بلا عمل؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ الإيمان هو القول والأعمال شرائع؛ فهو مرجيء. ومن زعم أنَّ الإيمان يزيدُ ولا ينقص، فقد قال يقول المرجئة، ومن لم يَرَ الاستثناء في الإيمان؛ فهو مرجئ، ومن زعم أنَّ إيمانه كإيمان جبريل والملائكة فهو مرجئ. ومن زعم أنَّ المعرفة تقع في القلب وإن لم يتكلم بها؛ فهو مرجئ.
والقدر خيره وشره، وقليله وكثيره، وظاهره وباطنه، وحلوه ومره، ومحبوبه ومكروهه، وحسنه وسيئه، وأوله وآخره = من اللَّه عز وجل، قضاءٌ قضاه على عباده، وقدرٌ قدَّره عليهم، لا يعدو أحدٌ منهم مشيةَ اللَّه عز وجل ولا يجاوزه قضاؤه، بل هم كلهم صائرون إلى ما خلقهم له، واقعون فيما قَدَّر عليهم، وهو عدل منه جل ربنا وعزَّ.
والزنى والسرقة، وشرب الخمر، وقتل النفس، وأكل المال الحرام، والشرك والمعاصي كلها بقضاء اللَّه وقدرٍ من اللَّه، من غير أن يكون لأحد من الخلق على اللَّه حُجَّة، بل للَّه الحجة البالغة على خلقه {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: ٢٣].