إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
فهذا كتاب «حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح» لابن قيّم الجوزيّة، ضمّنه مؤلفه ذكر ما أعدّه الله لأهل الجنة: من نُزُل ونعيم مقيم، وهو كتاب كما قال عنه مؤلفه:
«اسمٌ يطابق مسماه، ولفظٌ يوافق معناه، فهو مثيرُ ساكنِ العزمات إلى روضات الجنات، وباعث الهمم العليّات إلى العيش الهنيِّ في تلك الغرفات».
لمْ يزَل أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون وتابعوهم، وأهل السُنَّة والحديث، وفقهاء الإسلام، والصوفيّون والزّاهدون في الدين على اعتقادٍ بوجود الجَنَّة منذ البداية؛ إذِ استنَدوا في ذلك إلى نصوص القرآن الكريم والسُنَّة، وما تواتر عن سائر رُسل الله، فدعَوا الأمم إلى العمل للوصول إلى الجَنَّة، وأخبروهم عنها من قديم الزمن، عدا فرقةً من الناس ظهرتْ في عهد الحَسن البصريّ تُدعى "القَدريّة"، أنكروا وجود الجَنَّة منذ البداية، وأقرّوا بأنّ الله -عزَّ وجلَّ- سيخلقها يوم المعاد، وعلَّلوا ذلك بأنّ خَلْق الجَنّة قبل يوم البعث عبث؛ لأنّها تكون معطَّلةً حتى ذلك الوقت دون سكّانها من المؤمنين.
وقد ردّ عليهم السَلف، وقرّروا أنّ الجَنّة والنار مخلوقتان منذ زمن بعيد، مستدلِّين على ذلك من القرآن والسُنّة وأحاديث النبيّ الكريم، مما فيه تصريح بوجود الجنة ورؤية النبيّ لها، ودخوله إليها، واطّلاعه على ما أعدّ الله لعباده الصالحين فيها؛ وذلك كما في «الصحيحين» من حديث أنسٍ -رضي الله عنه- من قول النبيّ ﷺ في آخر قصة الإسراء: «ثُمّ انطلق بي جبريل حتى أتى سِدرة المُنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ قال: ثُمّ أُدخِلتُ الجَنَّة، فإذا فيها جَنابِذُ (قِباب) اللؤلؤ، وإذا تُرابها المِسك».
ذهبت طائفةٌ من العلماء والمفسِّرين إلى أنّ هذه الجَنَّة هي جَنَّة الخُلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، وذهبت طائفةٌ أخرى إلى أنّها جَنَّةٌ أخرى أعدّها الله تعالى لآدم وحواء، وجعلها لهما دار ابتلاء، وليست جنَّةَ الخُلد التي جعلها دار جزاء.
استفاضت أقوال علماء الدين في هذا الأمر استدلالًا بالأحاديث النبويّة الصحيحة، ومنها ما رواه مسلم في «صحيحه» عن ربعيّ بن حذيفةَ -رضي الله عنهما- قالا: قال رسول الله ﷺ: «يجمعُ الله تعالى النّاسَ، فيقومُ المؤمنون حتى تُزلَف لهم الجَنَّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا: استفتُح لنا الجَنَّة: فيقول: وهَل أخرَجَكم من الجَنَّة إلّا خطِيئة أبيكم؟»، قال العلماء: وهذا يدلّ على أن الجَنَّة التي أُخرِج منها آدم هي نفسُها التي طُلِب منه أن يستفتحها للمؤمنين يوم البعث.
تكثُر الدلائل على هذا القول، ومن هذه الدلائل:
قالوا في الردّ عليهم: لا نسلّم لكم دعواكم بأنها مسألة فطريّة فطر الله الناس عليها، وإنما نقول بأنها مسألة سمعيّة تلقّيناها من الوحي، فليست المسألة فطريّة ولا عقليّة، وإنما سبب اشتباه الأمر هو ذكر الجنة مطلقةً في قصة آدم ونزوله منها، فوافق ذلك اسم جنة الخلد وبعض صفاتها، فظنّها الناس إيّاها، مع أن الأمر بخلاف ذلك.
وأمَّا استدلالكم بقوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا} [البقرة: 36] بعد إخراجهم من الجنَّة، فإن لفظُ الهبوط لا يستلزم النزول من السماء إلى الأرض بالضرورة، وغايته أن يدلَّ على النزول من مكان عالٍ إلى أسفل منه، وهذا ليس بممتنعٍ إذا ما كانت تلك الجنَّةُ في أعلى الأرضِ، فأُهبِطوا منها إلى ما دون موضعِها ارتفاعًا من الأرضِ.
وأمّا القول بما ذُكِر سالِفًا [في الباب الرابع] عن وصف الله -سبحانه وتعالى- الجَنَّة بصفاتٍ لا تكون في الدنيا، فجوابه: أنّ تلك الصفات لا تكون في الأرض التي أهبطوا إليها، فمِن أين لكم أنّها لا تكون في الأرض التي أهبطوا منها؟
قالوا: أمَّا قولكم: إنَّ اللَّهَ سبحانه أخبر أنَّ جنَّة الخلدِ إنَّما يقع الدخول إليها يوم القيامة، ولم يأتِ زمن دخولها بَعْدُ، فهذا حقٌّ في الدخول المطلق، الَّذي هو دخول استقرارٍ ودوامٍ، وأمَّا الدخول العارض، فيقع قبل يوم القيامة، بدليل دخوله ﷺ الجنة في قصة الإسراء والمعراج.
وأمَّا قولكم: إنَّها دارُ جزاءٍ وثوابٍ لا دار تكليفٍ، وقد كلَّف اللَّهَ سبحانه آدم بالنهي عن الأكل من تلك الشجرة، فدلَّ على أنَّ تلك الجنَّة دار تكليفٍ لا دار خلود، فجوابه من وجهين:
أحدهما: أنه يمتنع أن تكون دارَ تكليفٍ إذا دخلها المؤمنون يوم القيامة، فحينئذٍ ينقطع التكليف، وأمّا وقوع التكليف فيها في دار الدنيا فلا دليل على امتناعه البتَّة، وغير ممتنعٍ أن يكون فيها من يعمل بأمر الله ويعبده قبل يوم القيامة، بل هذا هو الواقع، فإنّ مَن فيها الآن مؤتمرون بأوامر الله لا يتعدَّونها سواءٌ سُمِّي هذا تكليفًا أو لمْ يُسَمَّ.
والوجه الثاني: أن التكليف في تلك الجَنَّة لمْ يكن بالأعمال التي يكلّف الله بها الناس في الدنيا، وإنما كان حجْرًا على آدم وزوجه في أن يأكلا من شجرةٍ واحدةٍ فقط من جُملة أشجارها، وهذا القَدْر لا يمتنع وقوعه في جَنَّة الخُلد.
قالوا إنّ الجَنّة لو كانت مخلوقةً مسبقًا لوجَب اضطرارًا أن تفنَى يوم القيامة ويهلِك مَن فيها من الحور العين والوِلدان؛ لقوله تعالى في سورة [القصص:٨٨]: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ}، ولكنّ الله قد أخبر أنَّها دار خلود، ومَن فيها يخلدون لا يموتون، وخبرهُ سبحانه لا يجوز عليه خلْف ولا نسخ.
في جواب مَن استدلّوا بقول الله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] على فَناء الجَنَّة، قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل:
«هذه مذاهب أهل العلم، وأصحاب الأثر، وأهل السُنّة المتمسّكين بعُروتها، المعروفين بها، المقتدَى بهم فيها، من لدن أصحاب نبينا ﷺ إلى يومنا هذا، وأدركتُ مَن أدركتُ مِن علماء أهل الحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئًا من هذه المذاهب، أو طعن فيها، أو عاب قائلها، فهو مخالفٌ مبتدع خارج عن الجماعة، زائلٌ عن منهج السُنّة وسبيل الحق»، وساق أقوالهم إلى أنْ قال: «فإن احتجّ مبتدِع، أو زنديق بقول الله عزَّ وجلَّ: {كُل شَيْءٍ هَالِك إِلَّا وجهه}، وبنحو هذا من متشابه القرآن، قيل له: كل شيءٍ مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك، والجَنَّة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء ولا للهلاك، وهما من الآخرة لا من الدنيا، والحور العين لا يَمُتْنَ عند قيام الساعة، ولا عند النفخة، ولا أبدًا؛ لأن الله عزَّ وجلَّ خلقهنّ للبقاء، لا للفناء».